نجيب الخنيزي
التبدلات البنيوية التي شهدتها بلادنا بفضل اكتشاف وإنتاج النفط منذ منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، أدت إلى خلخلة نظام العلاقات الاجتماعية التقليدية القديمة، وأدت إلى ظهور طبقات وشرائح اجتماعية جديدة، انحسرت بموجبها إلى حد كبير، نسبة البدو والفلاحين والحرفيين، لصالح نمو طبقة وسطى واسعة العدد، تتميز بأنها متعلمة وذات مستوى معيشي معقول، رغم تراجع مكانتها في السنوات الأخيرة، إضافة إلى الفئات والشرائح العمالية الحديثة، ضمن اقتصاد يأخذ بآليات السوق وقوانين الاقتصاد الحر، الأمر الذي فرض ويفرض، على الدوام، إعادة التقويم والنظر في التجربة التنموية، وتطوير الأنظمة والإجراءات والقواعد، التي لم تعد توائم ومتطلبات الحياة والواقع المتجدد.
من هنا تنبع أهمية طرح برنامج التحول الوطني «رؤية المملكة 2020 - 2030» في سياق التطلع نحو إحداث نقلة حضارية ونوعية في شتى مناحي الحياة في بلادنا.
في هذا الإطار من المهم التفريق بين التحديث من جهة، وترسيخ مستلزمات الحداثة من جهة أخرى، أو بين التحديث البراني (الشكلاني) والحداثة بمضمونها الواسع، التي تستهدف الإنسان والمجتمع باعتبارهما أساس وأداة وهدف التنمية المستدامة بجوانبها الحضارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية.
وهنا لا بديل عن البحث عن حلول جدية وحقيقية، لتبديد الالتباس، وتصويب الخلل، من خلال صياغة رؤية ومشتركات إستراتيجية وطنية موحدة، تنطلق من الإقرار بقواعد ومشروعية التنوع والاختلاف، واحترام الهويات والفضاءات الثقافية المتعددة ضمن الهوية الثقافية والوحدة الوطنية الجامعة، والقبول بمبدأ ومشروعية تعدد قراءات الواقع، والتعايش مع الآخر المختلف، وترسيخ قيم التسامح والانفتاح والتعددية، والتأكيد على المشاركة الشعبية، وإطلاق حرية المجتمع في بناء تشكيلاته ومنظماته ومؤسساته المدنية المستقلة، وتعميق الفعل الثقافي، التنوير والعقلانية المرتبطة ببيئتها التاريخية والثقافية والمجتمعية.
من هنا تنبع حاجات الشعوب إلى الإصلاح الجذري، وتجاوز معيقات التغيير والتقدم والتطور في شتى مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وهو ما يتطلب تشكيل علاقات ومصالح ورؤى مشتركة ومتداخلة، تتسامى وتتعالى على العصبيات والمصالح الفئوية الضيقة، التي توفرها مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني، باعتبارها سمة ملازمة للدولة الوطنية «الحديثة» وآلياتها المعروفة، المتمثلة في المواطنة، المشاركة العامة، المجتمع المدني، الديمقراطية، العدالة، التشريعات والأنظمة.
المجتمعات كافة بحاجة إلى معادلة واجبات وحقوق الدولة وواجبات وحقوق المجتمع (العقد الاجتماعي)، وتأكيد دور المنظمات والمؤسسات المدنية المستقلة في عملية التغيير والمكاشفة والمراقبة وتطبيق القانون والأنظمة.
مكونات ومقومات المجتمع المدني المنشود لن تكون مطابقة للمجتمع المدني الغربي، بل هي تأصيل للتجربة التاريخية والذاتية الخاصة من جهة، وللتجربة الإنسانية ومنها التجربة الغربية بوجه عام من جهة أخرى. وفي الوقت نفسه فإن الجمود ورفض التغيير والوقوع في شرك تضخيم الذات (الأنا) ورفض الآخر (المغاير) بحجة الخصوصية الثقافية والدينية والحضارية، هو تعبير عن حالة انفصام أو انفصال عن الواقع والحياة، إِذ لم يعد بالإمكان في ظل العولمة من خلال الانزواء والانكفاء، والاكتفاء بالمراقبة والممانعة والمحافظة العقيمة والمستحيلة، كبح وإعاقة متطلبات التغيير والتطور والتقدم.
التنمية الثقافية تعد أحد أهم وأخطر التحديات التي تواجهها المجتمعات قاطبة لأنها مرتبطة بالإنسان (أفرادًا وجماعات) الذي هو أداة وهدف ومبتغى التنمية والتطور وهذا لن يتحقق إلا من خلال استيعاب العلاقة الجدلية المتداخلة ما بين الوطنية والقومية والعالمية، وما بين الخصوصية الثقافية والحضارية، والانتساب إلى حضارة إنسانية تمتلك سمات وخصائص ومبادئ عامة مشتركة.