د. محمد عبدالله الخازم
اقترب موعد الميزانية السنوية، وقد تغيَّرت كثير من ملامحها في السنوات الأخيرة. فمن جانب اعتبره البعض شفافية إعلان ميزانية القطاعات كافة، ومن جانب آخر سقط جزء من الشفافية بعدم تفصيل ميزانية كل جهة؛ فأصبحنا نتحدث عن ميزانية التعليم بدلاً من ميزانية كل جامعة وكل وزارة أو مؤسسة ذات علاقة. وأصبحنا مثلاً نتحدث عن ميزانية الصحة والخدمات الاجتماعية - وهكذا مع بقية الوزارات والقطاعات الحكومية - بدلاً من ميزانية كل قطاع صحي واجتماعي وتعليمي وغيرها بشكل منفصل..
بعيدًا عن التفاصيل المحاسبية المالية، ودور وزارة المالية بصفة عامة، يهمني الشفافية في إعلان تفاصيل الموازنة لجميع القطاعات.. يهمني عدالة توزيع الميزانية على مستوى القطاع الواحد، وعلى مستوى القطاعات المختلفة، وعلى مستوى المناطق.. ويهمني ربط الميزانية بمعايير أداء وكفاءة ومخرجات واضحة وبارزة.
سأعيد استخدام أمثلة سبق أن طرحتها. ولأن التفاصيل لم تعلن العام الماضي فالقياس على أعوام سابقة. على مستوى التعليم لا نعلم ما هو معيار تحديد ميزانية أي جامعة، فميزانية جامعة تقترب من الضعف بالنسبة لميزانية أخرى، رغم أن عدد طلاب الجامعة الأخرى أكثر من عدد طلاب الأولى، والجامعتان لديهما وظائف وطبيعة متشابهة من ناحية نوعية الكليات والخدمات، بل إن الأخرى لديها فروع خارج مدينتها. مثال آخر للعدالة على مستوى المناطق: وجدنا أن ثلاث جامعات بالرياض يعتمد لها مشاريع تصل إلى خمسين مليار ريال في عامين، بينما بقية الجامعات في جميع مناطق المملكة، ويتجاوز عددها العشرين جامعة، لم تحصل على مبلغ موازٍ لمشاريعها، رغم أن حاجة الجامعات، سواء الناشئة منها (خارج الرياض) أو القديمة يفترض أنها متعادلة بجميع المناطق. هذا مثال على أن إقرار الميزانية لم يكن مبنيًّا على معيار إنتاجي واضح كعدد الطلاب أو الاحتياج الأكثر.
جزء من عمليات إقرار الميزانية يحكمه التفاوض والنقاش، وأخشى أن يصبح ذلك الأساس، وتسيطر العلاقات الشخصية في ظل غياب معايير ومعادلات واضحة للجميع. أخشى افتقادنا معايير تنافسية شفافة ومفتوحة بين القطاعات المتشابهة. على مستوى القطاعات المختلفة، ورغم أن البعض يعتبر ذلك مفخرة، لا أراه منطقيًّا صرف ثلث الميزانية على قطاع واحد، بينما تحرم قطاعات أخرى من الحد الأدنى الذي تحتاج إليه.
لا أريد - كمجرد مثال - أن نفتخر بأن التعليم حظي بربع الميزانية، بينما «النقل» لم تحظَ بأكثر من مصروفاتها التشغيلية الأساسية، أو أن تحظى هيئة الأمر بالمعروف بميزانية بناء عشرة مقار، بينما الشؤون الاجتماعية لم تحظَ بأكثر من ميزانية مقرين. لا أريد أن نضطر إلى إيجاد منح إضافية خارج الميزانية لجهة دون أخرى تحت أي أسماء؛ لأن ذلك يعني أننا لا نسير وفق خطط واضحة مسبقًا.
تلك أمثلة تنطبق على قطاعات أخرى، وهي ليست للانتقاص من قيمة قطاع دون الآخر. إصلاح النظام المالي يبدأ من إصلاح الميزانية ومعاييرها بما يحقق الموضوعية والعدالة والشفافية، وتلك مهمة يجب أن تشارك بها وزارة التخطيط وبقية القطاعات، ضمن مجلس الاقتصاد والتنمية؛ فتوضع معايير علمية واضحة لميزانية كل قطاع. ويبقى دور وزارة المالية تنفيذيًّا ومشاركًا في تطبيق تلك المعايير وما يتبعها من آليات الصرف والمراقبة المالية، وغيرها من الآليات.