د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
دائما ما تصافحنا رسالة التعليم الشاملة وهي «تخريج طلاب مؤهلين علميا ونفسيا وجسديا ليتسلموا دورهم في مجتمع بلادهم ويقودوا دفة التغيير ويتصدروا المنافسات في حراك العالم اليوم». ولكن الواقع يؤكد أن أدوات تحقيق مضامين تلك الرسالة تقاصرت في حدود واضحة؛ فإذا ما دلفنا للعنصر الذي يشكل عقول الطلاب ويملأ فجوات التفكير عندهم وهي المناهج التعليمية فإنها لا تزال عاجزة عن التحرك عن نموذج المعرفة القديم الذي يعتمد بشكل مفرط على ضمير الغائب؛ فالتعلم ليس ناتجا عن تدريس المعرفة وحقنها دونما حراك؛ إنما التعلم نتاج نشاط وفعالية المتعلم التي لا تتحقق إلا من خلال مناهج مكتنزة بالتأصيل من الداخل قبل الخارج؛ فمازلنا نحتاج إلى كثير من العوامل لتتمنهج في تركيبتنا ، ولذلك فإن المناهج الحالية لم ترض أحدا إلا العاملين عليها!! فهي إما مستوردة مثل العلوم والرياضيات التي لم يُعدّ الطلاب للقراءات العلمية قبل تلقيها ، أو هشة ضحلة مثل الدراسات الاجتماعية واللغة العربية لاحتياج الأولى إلى العمق الوافر في قراءة الحاضر ليتمكن الطلاب من التنبؤ بالمستقبل! ولافتقار الثانية إلى الخيال الممكن الذي يصنع التفكير الناقد المتأمل!!.
ونتساءل ونحن في بلادنا المملكة العربية السعودية لماذا نقنع بالقليل من حصاد المعرفة!؟ لماذا لا تحقق مناهجنا مفاهيم المهنية والإبداع والابتكار!؟ ولماذا لا يخرج منها مايحرك أوعية العقول!؟ ونعلم أنه كلما زادت الاستفهامات ربحت تجارة المتعلمين. ولقد استنفذ صُنّاع سياسات التعليم أوقاتهم في الوقوف على مدى تحقيق التراكم المعرفي الذي يؤصل قاعدة وجوب التعلّم ، ولكنهم ابتعدوا عن المعطى التاريخي الأهم وهو أهمية توافر نموذج تعليمي وطني تراكمي المعطيات في بلادنا التي حباها الله مكانا ومكانة مختلفة والتي يجب أن تكون العقول فيها مختلفة أيضا، وبالرغم أن تلك الوتيرة قد انكشفت وتوضحت على مر السنوات الماضية؛ إلا أن صُنَّاع السياسات التعليمية لم يجتهدوا بالقدر الكافي لتعزيز وجود نموذج وطني للمحتوى التعليمي ،علاوة على ذلك فقد تصرفوا وكأن أزمة المحتوى التعليمي مجرد صدمة في بعض الأوقات والمواقع أشبه بالدراما المفاجئة حين انكشافها على خشبة المسرح، واكتفوا بإعادة صناعة المنتج ذاته وسحب بعض المكونات من سوق التداول، وتكاثر? ضحايا الخلل في السياسات التنظيمية لصناعة المنهج؛ «ومنهم من قضى نحبه»!!؟ وباتت أزمة المناهج اليوم تتطلب نظاما تكوينيا لاتخاذ تدابير أكثر تبصرا ؛ وأمتن رباطا لإسقاط الرؤى المستقاة من واقع الطلاب الذي يقوم على الدليل والقدرة التحليلية التي تغرس في نفوس الطلاب احترام سلطان المعرفة ، وركوب قطارات العالم اليوم على اختلاف محطاتها ، والتمثل بمنظومة متكاملة من الأخلاق والقيم العليا التي تعتبر ضامنا أساسيا في الحصول على المكاسب وتجاوز المخاطر ؛ ونعلم ُ أن العالم يغص بالأذكياء الذين يحللون الأمور بعقلانية ولكن صناعة المناهج تحتاج أيضا إلى الحكماء الذين يدركون المعيار الأعمق، والمعنى الأبلغ؛ وفي صناعة المناهج التعليمية لا بد أن يسبق العقل الحركة ، وأن تقاس القيمة قبل التخطيط ؛والمراد قبل التنفيذ ؛فهناك من المحتويات التعليمية ما كنا نعدها الأبرز؛ وعندما دفع المتعجلون بتلك المحتويات نحو المقدمة في عصرنا الحاضر تبعثرت وضاعت في ظل واقع معرفي منافس بأوزان ثقيلة؛ فدائما ما تكون المكاسب العاجلة وإن صفقت لها الأيدي لكنها مع تعاقب الزمن تزيد من أعداد العطشى!!
وخلاصة الحديث أن يتوافر عند صانعي شروط المناهج والمنتجين للمحتويات معرفة عليا بالثغرات التي اكتشفها الأولون والآخرون في نظريات التعلّم بما يمكّنهم من أن يحسموا ذلك الخلاف والاختلاف، وأن تكون صناعة المعايير الوطنية للمناهج مما يُسهّل على منتجي المحتويات أن يركزوا على المهمة التربوية وتقديم المعرفة مرتبة منهجياً وفق قدرات الطلاب؛ بمعنى أن يكون الشرط التربوي منصباً على قدرات الطلاب ومكوناتهم العقلية والنفسية، وأن تنطلق فلسفة صناعة شروط ومعايير المحتوى التعليمي من قدرتها على تمكين المتعلمين من تشكيل رؤاهم، وأن تكون لهم خصوصية الإضافة المعرفية. وأن تتوافر لذلك مؤشرات قياس عليا لجميع المفاهيم المستند عليها فالإبداع مثلا والابتكار واقتصاد المعرفة عبارات تعود على مفاهيم لا يمكن قياس مدى تحققها إلا من خلال قواعد وجودها التي انطلقت منها أهداف المنهج العامة والتخصصية .
ولعلنا نرى في قادم بلادنا الجديد منصة مستقلة تُعنى بالمناهج التعليمية لها صفتها الاعتبارية والعلمية والخبرة التخصصية جدا في كل متطلبات صناعة المناهج التعليمية.
ختاما ؛ هنا أتمثل قول نزار،،
وإذا قسوتُ على العروبة مرة
«فلقد تضيقُ بكحلها الأهدابُ»