حمّاد السالمي
لفت نظري خبر منشور قبل عدة أيام مفاده: أن فتاة سعودية اسمها (غلا الدوسري)؛ درست العزف على آلة العود على أيدي أساتذة متخصصين، ثم ما لبثت أن نقلت خبرتها لـ45 فتاة سعودية تخرجن على يديها في دورات أقامتها لتعليم العزف على آلة العود. هذا من جديدنا.
وفي الطائف المأنوس -عاصمة الفن بلا منازع- تجري حاليًّا الاستعدادات في جمعية الثقافة والفنون؛ لتنظيم دورات لتعليم النوتة وفن العزف على الآلات الموسيقية. المتقدمون للتعليم؛ بلغ عددهم حتى اليوم قرابة المائة. يأتي هذا بعد قرابة ثلث قرن من التوقف عن تعليم النوتة في هذه الجمعية العريقة التي ظهرت عام 1399هـ، وبدأت بفصل لتدريس النوتة وتعليم العزف استمر قرابة عشرة أعوام؛ حتى تسلط (تيار الصعوة) غير المباركة؛ على كل مناحي حياة المجتمع، الذي (صاع) الجمعية، فقضى على تعليم الموسيقى فيها، ولم يقضِ على أهل الموسيقى الذين تحدوا الظروف غير الطبيعية، فكونوا مجاميع خاصة للتعليم الفني من بيوتهم.
عشت تلك المرحلة بكل تفاصيلها، وتذاكرتها ظهر الثلاثاء الفارط مع صديقي الفنان: (طلال طائفي)؛ الذي هو ذاكرة الطائف اليوم. تذاكرنا أسماء شهيرة لها سبق الفضل في تعليم النوتة من الطائف. على سبيل المثال: (يوسف محمد) رحمه الله، أستاذ النوتة وقتها، ومعلم آخر دكتور من مصر درّس النوتة في الجمعية، وتخرج في هذا الفصل الموسيقي الوحيد في المملكة وقتها من المغنين مشاهير منهم: (عبدالله رشاد، وحسن إسكندراني)، وفي العزف عشرات ممن أثروا الساحة الفنية، وكان في الجمعية وقتذاك؛ (22 عازفًا) على الكمان وحده..!
أكتب عن هذه العودة الحميدة لماضي الموسيقى والفن الطربي والسينمائي وأنا أتساءل: ما الجهة التي تملك حق رعاية هذه العودة أو اليقظة من (غفوة الصعوة)..؟ هل هي فروع جمعية الثقافة والفنون..؟ أم هيئة الترفيه..؟ أم يظل الأمر كما هو؛ رهن مبادرات شخصية، وأخرى شجاعة من بعض فروع جمعية الثقافة والفنون..؟ وجمعية الطائف لها قصب السبق دائمًا في هذا.
أتذكر أني وقبل عشرة أعوام؛ زرت الفنان الكبير العميد (طارق عبد الحكيم) رحمه الله؛ في مركازه الشهير بمتحفه الفني الجميل في مدينة جدة.
في هذا اللقاء الماتع الذي حضره بعض من المثقفين والفنانين؛ وفي طليعتهم الفنان (عمر الطيب)، جرى حديث ليس عابراً على كل حال -فلطالما جرى مثل هذا الحديث في مجالس كهذه- وهو يدور حول ظاهرة خلو المدن السعودية من أي مدرسة أو معهد أو كلية أو أكاديمية تعلم الموسيقى والفنون، لمن أراد وأحب من أبناء وبنات السعوديين وغير السعوديين، من المقيمين الذين يمثلون أكثر من مائة دولة من شتى أقطار العالم.
هناك أكثر من علامة استفهام حول هذه الظاهرة، خاصة إذا جرى الحديث في حضرة من أسس أول مدرسة للموسيقى في المملكة، فالفنان العميد الموسيقار (طارق عبدالحكيم) رحمه الله؛ كان عميد الموسيقيين العرب، وهو الذي أسس مدرسة موسيقى الجيش في الطائف في الخمسينيات الميلادية من القرن الفارط التي ما لبثت أن انتقلت إلى العاصمة الرياض، ثم تلاشت بعد ذلك، وكانت تمد القوات المسلحة بطواقم فرقها الموسيقية المميزة، التي كنا نراها في المناسبات العامة والاستقبالات وحفلات التخرج وغيرها، وهي تعزف الموسيقى الشجية على ألحان وطنية، في طليعتها النشيد الوطني الذي يعلن: (الله أكبر)، عند رفع العلم الوطني، وعند استقبال وتوديع ضيوف المملكة وكبار الشخصيات.
بعد تلاشي مدرسة الموسيقى العسكرية، كان البديل معهد -في ظني- يتبع الأمن العام، إلا أن هذا الأخير لا نعرف عنه أي شيء اليوم، وهل ما زال يوفر الكوادر والطواقم المطلوبة في المحافل الرسمية..؟ أم هو الآخر آل إلى زوال..؟
وفي المقابل؛ لم تبادر وزارة الثقافة والإعلام بتكوين أي أطر فنية وموسيقية في محيطها الإذاعي والتلفزي والمسرحي والفني، فهي التي أنيطت بها منذ عقدين تقريبًا؛ مهمة الثقافة والفنون، وتأتي الموسيقى في صلب الفنون التي هي جزء لا يتجزأ من ثقافة المجتمع. فماذا تبقى من أيام مسرح التلفزيون الشهير..؟ ومن بقي من رموز فرقة التلفزيون الموسيقية..؟ ومثلها فرقة الإذاعة، وكذلك الفرق التي كانت تنتشر وتنطلق من جمعيات الثقافة والفنون..؟ وفصول تعليم الموسيقى في بعض هذه الجمعيات..؟
إن المملكة وهي بهذا الحجم الكبير جغرافياً وسكانياً وثراءً ثقافياً وماضياً فنياً كذلك، ليس بها ولا حتى أكاديمية واحدة تعلم الموسيقى والفنون الإنسانية الأخرى، الأمر الذي يضطر معه الكثير من الشباب والشابات، إلى الدراسة في الخارج، أو تلقيه على أيدي مجاميع هواة مثلهم في الداخل، فهل تحيي القوات المسلحة مدرستها العريقة في الطائف من جديد..؟ وهل يُنشط الأمن العام معهده لمنسوبيه..؟ وهل تلتفت وزارة الثقافة والإعلام إلى مسرحها التلفزي القديم، فتنفض عنه الغبار، وتشكل فرقة موسيقى الإذاعة والتلفزيون من جديد..؟ وهل يشهد سوق عكاظ بالطائف، قيام أول أكاديمية للموسيقى والفنون..؟ وهل تبادر جامعة الطائف بتدريس الفنون للراغبين من الطلاب والطالبات..؟ وهل يوجد في القطاع الخاص، من يلبي رغبة عشرات آلاف الشباب في دراسة الموسيقى والفنون، في أكاديمية عالمية؛ تكون لها الريادة في هذا الميدان..؟
أسئلة كثيرة، ولا إجابات عندي، غير أني أتابع نشاط هيئة الترفيه متسائلاًَ: هل مهمتها محصورة في التسلية بما تقدم من أعمال فنية.. طربية وسينمائية وخلافها، دون التفكير في توطين التقنية الفنية ذاتها، التي تقف وراء صناعة السينما، وخلف الإنتاج الفني من طربي وموسيقي..؟!
حان الوقت؛ لدعم فروع جمعيات الثقافة والفنون؛ وفي مقدمتها جمعية الطائف، بهدف إنجاح مبادرات تعليم النوتة الموسيقية، وتخريج كوادر موسيقية وطربية جديدة، وإبراز الأعمال المسرحية والسينمائية والتشكيلية التي تمثلنا، والمبادرة بتأسيس أكاديمية للفنون والموسيقى؛ تنهض بهذا الدور العظيم، وتكون لها فروع في أكثر من منطقة ومحافظة.
o مما قال (إرنست ليفي) عن الفن: (ستبدأ الإنسانية بالتحسن؛ عندما نأخذ الفن على محمل الجد، كما الفيزياء، أو الكيمياء، أو المال).