تركي بن رشود الشثري
التوازن هو إعطاء كل ذي حق حقه والالتفات للتكامل في الحياة بين العقل والجسم والدين والدنيا وهو معنى حضاري تستقيم معه أحوال الناس وينعمون فيه بسكنى منطقة نفسية هانئة إذ لا يمكن بحال أن تستقر المجتمعات التي تشقى بشيء من الطغيان في جانب على حساب جوانب وكذلك الحال بالنسبة للأفراد فخير ما تقدمه لنفسك ولغيرك وقاية وعلاجاً هو تحقيق التوازن خصوصاً في الأوساط المضطربة ولذلك عنونت لبرنامجي التفزيوني بالقناة الثقافية السعودية الذي يتعلق بهذا الموضوع بـ (التوازن والعولمة) وبالفعل فعصرنا يشتدد فيه الإلحاح على تحقيق التوازن لعدة أسباب منها أنه عصر السرعة، الذي في عجلة من أمره بشكل دائم ولا بد من أنه سيفرط في صحته أو لياقته لحساب نجاحه العملي أو العلمي، وقد يفرط في جانبه الفكري لحساب تحسين جودة منتجاته وعليه قس، ومن الأسباب أيضاً أنه عصر الاستهلاك والاستهلاك يعني الإيغال في المادة ولا يكون ذلك إلا على حساب الروح فالاستهلاك بنية أساسية في ظاهرة العولمة، ومن الأسباب الانفتاح وسهولة التواصل مما يجعل القيم والعادات على محك المقارنة والتمحيص مع الوافد الجديد فيحتاج الشباب خاصة للتوازن بين هذا وذاك، ومن الأسباب أيضاً أن الضغوط في الزمن الماضي كانت تمتصها الأرض بمعنى أن الفلاح يضرب بمسحاته الأرض ويزرع ويبذر ويرى نتاج ذلك فيتخلص من كثير من الأسئلة الوجودية والضغوط النفسية بينما في عصر السهولة وإنجاز المهمات من المنزل وفي الغرف المكيفة مع أسباب كثيرة ضاغطة ولا سبيل للتفريغ عن كل هذا يجعل الإنسان المعاصر في حالة من التوتر والقلق الدائمين وعليه فهو مطالب بالتوازن في حياته ليتخفف قدر الطاقة من هذه الضغوط، إذن الحاجة ملحة للتوازن خصوصاً في زمن العولمة فكثير من الناس يسأل عن تنظيم وقته وعن تربية أبنائه وعن التنسيق بين المنزل والمكتب وبين الدين والدنيا وبين الفردي والجماعي، ومع ذلك وبعد برنامج التوازن الذي هو أي التوازن من أهم أسباب اجتماع القوة اكتشفت ضعف الإنسان فإنه ومهما توازن فلا ينفك عن الضعف (وكان الإنسان ضعيفا) وعن الخطأ (كل ابن آدم خطاء....) و العجلة (خلق الإنسان من عجل) فما هو الحل؟ الحل هو المزيد من التوازن بحيث نتوازن في طرح فكرة التوازن بأن نضع هامشاً لاستيعاب ضعف الإنسان وخطأ الإنسان وعجلة الإنسان فلا يحكم الإنسان على نفسه بالفشل وهو لم يسع بعد في تحقيق القدر الملائم لحاله من التوازوفي الوقت نفسه لا يعتقد أن تحقيق التوازن معناه الكمال ووضع اللبنة الأخيرة في بناية نجاحه الحياتي فلا بد من مواصلة العمل وبذل الجهد واكتساب الخبرات والمعارف وتقبل الضعف والخطأ والعجلة كل ذلك مرهون بفهمنا الأصيل لمطلب التوازن.
بنى الله هذا الكون متوازناً وخلق الإنسان كذلك فمركبات الجسم هي الماء والسكريات والبروتينات والفيتامينات والفسفور والحديد وغيرها كلها بمقدار وكلها موجودة في الأرض وفي الحيوان والنبات بنسب تضمن البقاء لتؤدي هذه الحيوات وظائفها باتساق ثم إذا نظرت للفلك رأيت الدقة والنظام في هذه المجرات الضخام فلا تصادم ولا اختلاف في المواسم ولا تخلف لفصل من الفصول الشمس لها وظيفة والقمر له وظيفة والنجوم لها وظيفة والأرض لها وظيفة وكل في فلك يسبحون وعليه فنحن ننزل هذا التوازن على سلوك الإنسان وفكره ونربطه بقانون الكون العام ألا وهو التوازن فالتوازن هو الضامن الوحيد للاستقرار الوجودي والعقلي والنفسي والخبرة المجتمعية للناس لا تجهل هذا بفطرتها ولكنها تتنكر له بتصرفاتها فالمجتمع يمور بالصراعات السالبة والأفراد يصارعون أنفسهم صباح مساء بسبب الطغيان أو السياسة الجائرة للنفس وصفوة القول إنه لا يمكن بحال أن يحقق المرء أهدافه المختلفة إلا بضبط حركته في الحياة وجعلها متناغمة مع هذا الكون الذي يسبح بحمد ربه نعم نحن لا نفقه هذا التسبيح ولكننا على يقين من أنه يسبح وعلى يقين من أن توحيد الهم ليكون هماً واحداً وهو هم رضى الله وتوحيد الإرادة وهي إرادة وجهه الكريم هو المصل الواقي من جوائح الاهتزاز النفسي والاغتراب الروحي والشعور بالفشل الذي يمد أذرعته كالأخطبوط من الغرب البارد القلق للشرق الدافئ المطمئن الذي لم يعد مطمئناً ولم يعد دافئاً بالدرجة الكافية فهل نحن بحاجة للتوازن؟
بعد كل هذا لا يسعنا إلا أن نقول: من فقد التوازن فقد الحياة لماذا؟
لأن الحياة بنيت في مادياتها ومعنوياتها على التوازن فالذي لا يتوازن بين عقله وعاطفته بين جسمه وروحه بين عقله وقلبه سيخرج من ميدان الحياة الفسيح المترابط بدقة وشمول إلى الضياع القيمي والبخس النفسي والتوتر العقلي وهي مظاهر فاشية اليوم وساعد على انتشارها سهولة الاتصال ووصول من لا خلاق له لقمرة القيادة واشتهار أهل السفه والتماجن الممجوج.
لدينا من يفكر ويسك المصطلحات وينتج النظريات وكل ذلك باقتدار ولكن للأسف أن الهوة بين التفكير والواقع بعيدة الغور وعليه فليغتنم كل مفكر الفرصة السانحة فالناس بحاجة ماسة للأفكار العظيمة والتي لا تبتعد كثيراً عن واقعهم بل تساعدهم على شق طريقهم في هذه الحياة المعقدة بقوة واتزان والفرصة سانحة فالجمهور جاهز وعلى أهبة الاستعداد والوسائل ميسرة والبث مباشر ولا يكون ذلك إلا بالتوازن بين الأفكار والواقع، فالناس لا ترفض الأفكار العظيمة ولا ترفض المفكرين كما يردد كثير ممن يشعرون بالاغتراب الثقافي فالخطأ منهم لأنهم دائماً ما يغردون خارج سرب الحياة المعاصرة واليوميات العفوية للناس، كذلك الفرصة سانحة لمن يملك المعلومات الكثيرة كي ينظمها ويستخرج أنفع ما فيها ويطرح الزعل فليس كل ما يعرف يقال وليس كل ما يقال حقيقة فالمعلومات اليوم مبذولة وهي تنتظر على قارعة الطريق والذي يصنع الفارق اليوم هو من يحسن تنظيم المعلومات ويستطيع التوازن في تقدير كثرة المعلومات حول الموضوع محل الدراسة وبين تنقيح هذه المعلومات فالناس لا تريد معلومات كثيرة جداً بل تريد ما ينفعها وأبسط مثال على ذلك وإن كان لا يؤدي كل ما في النفس عن هذا المعنى ذلك المحاضر الذي يريد أن يقول للحضور كل شيء يعرفه عن موضوع محاضرته بدءًا بالتعريفات والمداخل وانتهاء بجميع ما يحضره وما لا يحضره من توصيات حيث يظل يهوِّل ويعاني كي يقنع من أمامه بضرورة الإقدام أو الإحجام على أمر ما مع أن التركيز على نواصي الموضوع وأصول مبناه مع شيء من التوضيح والأمثلة الواقعية الآسرة يعطي للقول إشعاعاً ثقافياً راقياً يداخل مسامات التفكير لدى الحضور وفي هذا الكفاية والغناء.