فيصل أكرم
ثمة منطقة صوتية، في الكتابة كما في النطق، تتماهى مع العقل إن كانت بين عاقلين فتكون عقلانية أو مع القلب فتكونه كذلك عند ذوي القلوب أو معهما معاً فتكون إبداعاً.. لا أؤمن بإبداع لا يستقر في تلك المنطقة نطقاً كان أم كتابة؛ عدا الثورات.. ففي الثورة لا يخاطب العقل عقلاً ألغاه ورفض أن يعطيه حقه في أن يكون عقلاً، ولا يخاطب القلبُ آلةً لضخ مادة سائلة حمراء مجرّدة من الدماء ولا تصلح أن تكون مهجة لما نعرفه بالقلب.
يقول شوقي:
(وللحرّية الحمراء بابٌ
بكل يدٍ مضرّجة يُدقُّ).
وليس هذا ما وددت الحديث عنه هنا ولكنه يتماس معه ويتقاطع بحسب الحالة، والحالة الآن تبدو للكل في تماس وتقاطع مع كل الأشياء.
كيف أهمسُ لصديقي محذراً إياه من ظلم يقع أمام أعيننا؟ أو كيف أكتب لقارئي ألمي لما يصيبنا معاً؟ في الحالة الأولى سأكون كمحرّض على الشماتة والصمت، وفي الحالة الأخرى أيضاً. فما السبيلُ إلى النطق أو الكتابة؟ همساً أو صراخاً؟ أعود فأقول: هو الإبداع!
قلتُ لا أؤمن بإبداع لا يستقرّ في منطقة تتماهى مع القلب والعقل معاً، وكنتُ أعني الهمس، غير أني عرّجتُ على الصراخ بوصفه ضرورة لكل ثورة.
في صفحات الإبداع الخالد توثيقات لصرخات إبداعية بالنطق والكتابة، غير أنّ الصفحات الأكثر إبداعاً وخلوداً كانت لهمسات لم يتعمّد قائلوها توثيقها حتى، ولكنها استحقت عن جدارة أن تأخذ مكانها في ذاكرة كل الأنهر والشلالات التي تجري بالإبداع من بلاد إلى بلاد وتصبه نقلاً من لسان إلى لسان ومن محبرة إلى محبرة، ليصل إلى الناس، كل الناس، ثائرين كانوا أو راضين مرضيين.
الهمسُ أشدُّ تأثيراً من الصراخ في عامة النطق والكتابة، بينما الصراخ حيلة المضطر كتابة ونطقاً بحسب خصوصية الحالة التي قد لا تؤدي الثورة عليها إلاّ إلى مزيد من الثورات.
ابتلينا منذ عصور بمفردة (ثورة) وكأنها العمل البطوليّ، بينما تناسينا أن البطولة لها عقل وقلب وتجيد إتقان استخدامهما بكل الوسائل الهامسة لتحقق نفسها.
كل هذا لا يكون طبعاً إلا إذا استبعدنا الأسباب الواضحة التي تدفع إلى الصرخة والثورة على حساب الهمس والإبداع.. فتلك أسباب تجارية لا أكثر.. تجارة أسلحة وتجارة زعامات وتجارة أنظمة وتجارة سوءات.
الإبداع الحقيقيّ - برأيي - لا يقحم نفسه في ذلك إلا مضطراً، وإذا كان عاجزاً عن تحقيق أي هدف فليس من داع لاضطراره المزعج والأفضل له وللناس أن يحافظ على كونه إبداعاً يضيف إلى الحياة حياة ولا يزيد الموت موتاً؛ فكل ثورة مهما تكن من أجل إطلاق الحياة فطرقاتها ممتلئة بالمدافن.. مدافن موتى وجرحى ومهزومين ومنكسرين ومعقدين رافضين التعامل مع ما تبقى من حياة.. ناهيك عن مدافن المنتصرين حين تُسرق منهم انتصاراتهم!
ختاماً، أقول بما أحسبه صدقاً: بين الهمس والصراخ، خطابات للموت بعضها وبعضها للحياة.. أمّا الإبداع فهو ليس مجرّد خطاب لهذا أو تلك!