د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
لا يختلف اثنان على أن للشعر خصوصيَّات ينفرد بها عن غيره من الكلام، ومن أبرزها دِقَّة الدلالة التي تحملها نصوصه، واحتماله مع المعنى المقصود لمعانٍ أخرى لا يُمكن إغفالُها، فالشعر يحتمل تعدُّد التأويلات والرؤى؛ لغلبة المجاز على الحقيقة فيه؛ وقيامه على استخدام الرموز بأنواعها، وما يتصل بطبيعة نظم الكلام نفسه، وترتيب أجزائه؛ ولذلك فلا غرو أن يختلف الناقدان في دلالة نصٍّ من النصوص، بل ربَّما وصل هذا الاختلاف إلى حدِّ التناقض؛ وما ذاك إلا لأنَّ كلاً منهما نظر إلى النصِّ من زاويةٍ معينة، وتأثَّر بعددٍ من المؤثِّرات النقدية التي كان لها أثرٌ مهمٌ في توجيهه إلى هذا المعنى، أو نحو تلك الدلالة.
وقد أتاحت لي دراساتي العلمية الاتصال بشاعر العربية الكبير أبي الطيب المتنبي، مالئ الدنيا وشاغل الناس، فتوجهت في بعضها صوب تفاسير العلماء لنصوصه، وكيف كانوا يفهمونها ويقدمونها إلى المتلقي، ولا ريب أن نصوص شاعر بحجم أبي الطيب لا تزال نموذجاً للإبداع الشعري، ومادة تحرِّض على القراءة والكشف، بما تتيحه من إمكانات التفكير والتأويل، والقدرة على التعايش والتجدُّد مع كل زمان ومكان. ومن النصوص الشهيرة التي توقفتُ عندها آنذاك قوله في قصيدته التي يصف فيها شعب بوان:
مغاني الشعب طيباً في المغاني
بمنزلة الربيـع من الزمانِ
وَلَكِنَّ الفَتَى العَرَبِيَّ فِيهَا
غَرِيبُ الوَجْهِ وَاليَدِ وَاللِّسَانِ
فقد اختلفت أقوال الشُّرَّاح في البيت الثاني، وتحديداً في مقصود الشاعر من قوله: (غريب اليد)، فذكر ابن جني أنَّ المعنى: أنَّ سلاحه غير سلاحهم، بينما نقل المعري عن بعض الناس أنَّ المقصود بها النعمة، ثُمَّ كشف عن رأيه حين أوضح «أنَّ العرب تُخالف العجم في خلقها ولفظها؛ لأنَّ وجوههم بيَّنةٌ من وجوه العرب، ولحاهم شقر وصهب، وكان مرور أبِي الطيب بالكرد، وأيديهم لا تشبه أيدي العرب؛ لأنَّها غِلاظ جَعْدَة»، بينما رأى الكندي أنَّ «غربة اليد هنا عبارةٌ عن قلَّة الانبساط إليهم؛ لأنَّها مظنَّة الأخذ والعطاء».
وفي وسط هذه الآراء يورد ابن معقل الأزدي رأيه الذي يعتمد فيه على فكرة المناسبة بين الكنايات، فيقول: «وعندي أنَّ غربة اليد كنايةٌ عن عدم فهم الكتابة، كما أنَّ غربة اللسان كنايةٌ عن عدم فهم اللغة، فاليد في هذه البلاد لا يُفهم منها ما تكتب، كما أنَّ اللسان لا يُفهم منه ما يقول»، «فكنى بغربة اليد واللسان عن عُجمة الخطِّ والكلام»، ثُمَّ يؤكِّد ابن معقل بأنَّ هذا «هو المعنى الذي أراده أبو الطيب لِمَنْ تدبَّره بقلبه، وأنصف بلسانه».
والملاحظ لهذه الآراء يجد أنَّها تتفق في عدِّ غربة اليد كناية، كما تتفق في تفسير هذه الكناية على أساس أنَّ اليد آلة يتم بواسطتها ما عدَّته هذه الآراء رمزاً أراده الشاعر من هذا التركيب، فاليد هي التي تحمل السلاح، وهي التي تتعامل مع الناس بوصفها مظنة الأخذ والعطاء، وهي التي تحمل القلم بُغية الكتابة، ولا يخرج من هذا الاتفاق سوى قول أبي العلاء الذي تعامل مع التركيب على أساس الحقيقة، وهو تعاملٌ أرى أنه بعيدٌ عن الصواب، حتى وإن قيل إنه يتناسب مع الرأي القائل بحقيقة «غربة الوجه»؛ لأنَّ اليد لا يُمكن معها في الغالب التمييز، بِخلاف الوجه، على أنَّ الأنسب ألا تُحمل «غربة الوجه» على الحقيقة، إنَّما تكون كنايةً عن عدم المعرفة.
ومع أنَّ قول ابن جني يبدو أبعد الأقوال عن السياق؛ إذ ليس للحرب والقتال ذكر هنا، إلا أنني أحسب أنَّ «غربة اليد» في هذا المقام تَحتمل المعاني جميعها، ولا أرى أيَّ مانع من الجمع بين هذه الآراء، وإدراجها تحت ما يُمكن أن ترمز إليه هذه الكناية، بل إنَّ هذا مِمَّا يزيد في بلاغة البيت وثرائه، فالفتى العربيُّ غريبٌ عن هذا المغانِي غربةً كاملة، تشمل كل نوعٍ من أنواع الغربة.