د. إبراهيم بن محمد الشتوي
وإذ بدا أن «العار» مما سبق يأخذ جانبًا كبيرًا من تشكيل الوعي الأخلاقي لدى الإنسان العربي فإن تحديد العار ليس أمرًا يسيرًا، وقد يكون من اليسير القول: إنه الخروج على ميثاق الخلق العام، بيد أن هذا الميثاق في بيئة صحراوية يغلب على حياتها السلب، والنهب، والثأر، والحرب لأجل الماء والكلأ، ليس أمرًا واضحًا، فالذي يثور لأجل بكاء امرأة قُتلت ناقتها؛ فيقتل سيد القوم، يدفن موليته في التراب دون أن يرف له جفن، والذي يذبح النوق لأضياف حلوا في داره، لا يبالي أن يكون قد سرق هذه النوق من أناس آخرين.
والأمر اللافت للانتباه أن «العار» والشعور به لا يعود إلى نوع الفعل الذي جلبه، ولا إلى مقداره، بقدر ما يعود إلى الظروف التي تحيط بالحالة، فقد يكون عاليًا لفعل حقير، وقد لا يوجد بالرغم من شدة تأثيره على من لحق به مقياس محدد له، فالمقياس الحقيقي هو مقدار ما يحدثه في الناس من استنكار وشناعة، فردة فعل الآخرين تجاه هذا الفعل هي التي تحدد درجته، بعيدًا عما يتصل به الفعل نفسه؛ الأمر الذي يعني أن «العار» من صنع الآخرين، فهو بمنزلة الحملات الإعلامية المعاصرة التي يشنها بعض الصحفيين على بعض دون أن يكون لها حقيقة خارج ذلك.
إلا أن هذه الحملة الإعلامية تلقى عند العربي اهتمامًا كبيرًا، وتقع في نفسه موقع الجد، الذي يجعلها تتصرف في مجريات حياته، وتدفعه إلى الفعل بالاتجاه التي تسير فيه، أشبه بالرياح التي تدفع السفينة الشراعية في عمق البحر.
كما كان الهجاء يفعل في الزمن الأول، حين نجد الهاجي يحتشد يجمع المثالب، والمقابح؛ ليصبها صبًّا على المهجو، بغض النظر عن صحة هذه الصفات التي يهجو بها، أو كذبها، وكان الناس يتجنبون الهجاء لشدة تأثيره، ويفعلون ما يرونه كفيلاً بدفعه عنهم، حتى لو خالف طبيعتهم؛ الأمر الذي يجعله يدفعهم إلى الكرم حين خوف الذم بالبخل، وإلى النجدة خوف الذم بالعجز أو الجبن، بالإضافة إلى كونه المقياس في الصفات الكريمة أو القبيحة، والقصص التي أوردها الرواة، وتفيد بأن الهجاء قد وضع أناسًا كثيرًا كانوا في علية القوم، وما حكاية جرير مع بني نمير إلا واحدة منها. مما يعني أن الهجاء وما يجلبه من عار هو المحرك الكبير للإنسان؛ ما يعني أثر «العار» بتحديد الذنب بوصفه نتيجة للفعل.
والهجاء لا يعدو أن يكون مضادًّا للمدح - على حد تعبير قدامة - أو هو سلب الصفات الحميدة، فهو قانون يقوم على السلب، وكلما كثرت أضداد المديح في الشعر كان أهجى له، وتنزل الطبقات على قلة الصفات، ولأن المديح عند قدامة يقوم على أربع خصال، هي: الشجاعة، والعفة، والعقل، والعدل. ويمكن أن نضيف إليها ما امتلأت أشعار العرب بالمدح به، وتفضيل الملوك وأبنائهم بسببه وهو الكرم.
وإذا أضفنا ذلك إلى مفهوم «العرض» الذي يحتل مكانة عالية في وعي الإنسان العربي يجعل لهذه الأقوال قيمة كبيرة، خاصة أنه - العرض - هو ما يمدح الإنسان فيه، ويذم؛ الأمر الذي يعني أنه لا يتجاوز في مفهومه هذه الحملات وما يقال فيها.
وحين نقول إنه ما يمدح به أو يذم فإننا نوسع إطاره ليشمل كل ما يتصل بالشخصية، سواء كانت فردية أو جمعية، وسواء كان سلوكًا أو خلقًا، وسواء كان كبيرًا أو صغيرًا، وهذا يجعله صعب التحديد، ويصعب الاعتماد عليه في بيان قيمة الشخصية، وإن كان مرده الصفات الأربع سالفة الذكر، وهذا ما لا يجعله محصورًا في شيء دون غيره.
ومن مكانة «العرض» عند الإنسان العربي أنه يقدم سلامته على كل شيء، ويجعل الإضرار به أو المساس مساسًا بالنفس، وهو بمنزلة ما يحيط به من حصن، يحميه من الهجمات، ويمنعه من الأطماع، ومن غيره يصير عرضة للطاعنين فيه، وفي أهليته، ويقدم حمايته على كل غال ونفيس كما قال القديم:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه
لا بارك الله بعد العرض بالمال
وحين نعود إلى الفقه الإسلامي مثلاً نجد أن الفقهاء جعلوا صيانة العرض من الضرورات الخمس التي جاء الإسلام بحفظها؛ وهو ما يعني أنه من الأصول التي تقاس بها الأحكام الشرعية، وتؤخذ منها القواعد الفقهية؛ الأمر الذي يجعل انثلاب العرض - وهو العار - أمرًا غاية في الخطورة، ويصلح أن يكون الأساس في تحديد ما يعد ذنبًا عما سواه، ويبيّن أثر الثقافة في العقاب.