علي الدميني
خلف الذات الرائية ، يتموقع السارد، كبطل وحيد يحرك عدسة التقاط الصورة و الأحاسيس و علامات الأمكنة و الشخصيات الأخرى، في تشكيل غنائي يقترب من حالات الـتأمل والشعرية التصويرية، متكئاً على قدرة فنية تسكّ العبارات وتعيد النظر في صحة ما تقوله، وتعمل على دمج تيمات محفزة أخرى لا تتمحور فقط على الحالة العامة للنهايات، وإنما تقوم بتحويل اليومي و مخزون التذكر والأحداث والتساؤلات - بحرفية فنية متمكنة - إلى مكوّن رافد « للتيمة» الرئيسية المحركة لبنية النص الكلية.
و يمضي محور أطياف النهايات ليدوّن متنه المكثّف عبر قصصه القصيرة جداً أو ما أسميه « القصة الصغيرة»، حيث أنني لا أميل إلى التسمية السائدة اليوم للقصة الصغيرة بـ «القصة القصيرة جداً - ق. ق.ج « و قد اقترحت تسميتها بالصغيرة مترافقاً في ذلك مع القاص جبير المليحان.
والقصة الصغيرة تنطوي أيضاً في مفهومها على «قصة الومضة»، لأنها شديدة التركيز والكثافة والضوء وسريعة القراءة و التبدُّد كومضة البرق.
و قد جرّب محمد علوان كتابتها مبكراً منذ منتصف1975 ، إذ تضمنت مجموعته الأولى أربعاً منها، لكنه نسي هذا المنحى حتى عاد إلى الانشغال به في مجموعته « هاتف».
والقصص الصغيرة و قصص الومضة تتقاطع في تكوينها و تشكّلاتها مع مقومات قصيدة النثر، التي أسست التقعيد لها (سارا برنار) في كتابها الشهير (قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا)، فكلا الشكلين يقومان على القصر و الإيجاز، و الاختزال و الإضمار و التكثيف والسطوع (بمعنى أن الكلمة يجب أن تأخذ موقعها تماماً بحيث لا يمكن حذفها أو استبدالها بمرادف)، و كذلك في اعتمادهما على الإيحاء والمجاز والترميز وبلاغة تشكيل الدهشة والمفاجأة، وفي حضور العنوان كجزء من النص، و كذلك في عنصر المفارقة الذي لا يقف معناها في اللغة - كما يقول الدكتور محمود الضبع - وإنما باتساعها الذي يشمل مفارقة الحالة و مفارقة الدلالة ومفارقة البنية والمفارقة المشهدية «.(جريدة الشرق الأوسط - 1 مارس -2017م - العدد 13973)
غير أن القصة الصغيرة تحتفظ بمخيال السرديات في حكائيتها و بروز شخصية السارد العليم فيها، وإلا فإنها تخرج من جنس السرديات بذهابها إلى الشعر إن أجادت إبداع عناصر شعريتها.
و قد تضمنت مجموعة « الخبز والصمت» أربع قصص صغيرة، لم تبارح موقعها كقصة قصيرة من حيث التفاصيل والحدث والحوارية والبنية الزمنية، إلا في قصرها فقط.
و نقف على واحدة منها بدون عنوان، وخلاصتها :» عاشقان يجلسان بقرب بعضهما، تحتفي اليدان بالتعبير عن حرارة اقتراب الجسدين، لكن الرجل الذي يدخّن بشراهة يبدو قلقاً.
لماذا؟
لأنه خائف من قسوة الحياة، لذا تقول له رفيقته: إننا نشبه سيجارتك التي لا تدرك سبب احتراقها، لكننا ندرك أسباب احتراقنا.
وحين التقت عيناهما كانت النار في المدفأة قد أصبحت رماداً!
الفكرة هنا واضحة لا إيحاء فيها ولا ترميز ولا كثافة و لا إضمار،إلا في عنصر تشبيه التورية في نهاية القصة حين عبر عن حالتهما بانطفاء الجمر في الموقد وتحوله إلى رماد. ولذا فهي تحفل بتفاصيل عديدة وتشبه مناخات القصة القصيرة لكنها هنا أكثر قصراً.
وكل القصص الثلاث الأخرى لا تبتعد عنها كثيراً، إلا أن القصر والاختزال وعنصر المفارقة يسمان قصتي «بائع العرقسوس « أو» بالون الطفل « الذي انفجر في الطائرة، وربما لو أخلص القاص لهذا المنحى لكان قد أسهم مبكراً في تعرّفنا على هذا النموذج من القصة الصغيرة أو قصة « الومضة»، التي أبدع فيها في مجموعته الأخيرة «هاتف».
و قد أورد في المجموعة أكثر من عشر قصص صغيرة، سنشير إلى بعضها مما يتعالق دلالياً بمحور « أطياف النهايات»، الذي عرضنا له من قبل في ضوء تجلياته الفنية ودلالاته المتعددة.
و سأورد نصاً منها كاملاً بعنوان» باب»:
«في طرف المدينة، يقبع بابٌ كبير و قديم من الخشب الذي منحته الصحراء لونها.. مجموعة من الأقفال الصدئة توصده، والعربات تمرّ بسرعة بجانبه .. لا أحد انتبه أن لا جدران ذات اليمين وذات اليسار.. فقط الباب موصد» (هاتف - ص117)
هذا النص يتوفر على جلّ مقومات القصة الصغيرة - قصة الومضة، في كثافته و إيحاءاته و إضماره لأبعاد كثيرة تقع خارج النص. فنرى أن كلمة «باب» التي كانت نكرة في العنوان قد استحالت معرّفة بأل في نهاية القصة، حيث أن الدلالة المفتوحة للتأويل قد جعلته باباً محدداً، لأنه الشاهد الوحيد الباقي على دلالة « الأثر» . هذا الباب الموصد بأقفال صدئة يشير أن حياة كاملة كانت هنا خلف الباب، حياة البشر والآمال و العرق والألم، وكلها طالها طيف النهايات بما فيها الجدران و الناس و الحياة، فيما بقي الباب و كأنما يرمز إلى باب المقبرة الدائم! ولذا يمر الناس بجانبه مسرعين دون النظر إلى أن الباب يقف لوحده بدون جدران، وكأنهم يضمرون إحساساً تراجيدياً بأن البقاء فقط لأطياف النهايات!
وسنرى في عدد من هذه القصص الصغيرة تجليات تلك النهايات، منها ما يومئ إلى موت الحياة ومنها ما يشير إلى غياب العشق و الجسد والإنسان، كما في قصة « خالي» و»خالتي»، ومنها ما يأخذنا إلى دلالة أخرى كما في قصة « امرأة»:
«أجهشت بالبكاء دون أن يرى وجهها، طلبت منه أن يقفل فستانها، حاول مرةً تلو مرة، و في الثالثة أكمل مهمته. إلا أنه لم يضمها و لم يقبّل رقبتها» ( هاتف - ص 106)
وهنا تجيء صورة نهاية مفتوحة على التأمل، فلربما كان الملل و التكرار سبباً ، و ربما يكون الرجل منشغلاً بشيء آخر أو غاضباً منها ، و لعل الأقرب لتفسيري يميل إلى أن تلك الصورة المشهدية تعبر عن نهايات الرغبات الجسدية، التي لا يعبر عن حرقة فقدها سوى الدموع.
وفي قصة «الشتاء» نلمح ما يضمره النص من ملامح تساقط الأوراق والغياب، وما يذكرنا ببائع فاكهة الصيف الذي ترك عدة مهنته ( الكرسي والطاولة) عارية في الفراغ، حيث يقول عنه السارد: مضى دون أن يقفل أبواب دكانه.
أما القصة الرابعة «سؤال» فقد اعتمدت على تفجير مفارقات اللحظة بذلك السؤال الذي طرحته الفتاة على أبيها المسنّ، وهما على طاولة الطعام قائلة: ما هو العمر الذي يكون فيه الإنسان حراً طليقاً؟
أجابها: في 85
سؤال الابنة يحوي في طياته الأمل والاستقلالية وممارسة جماليات العمر، ولكن الرجل يرى فيه ما يخامره من أحاسيس أطياف النهايات، و حين سألته : لماذا؟
جاءت إجابته في الضفة المقابلة لأحلامها بالحرية، حيث رأى أن التخلص من تراكم تعب المسيرة « يعطي للحرية معنى آخر!»
و كأن هذه القصة تتعالق دلالياً مع تعب المعري، أو سأم زهير ابن أبي سلمى الذي قال:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولاً لا أبا لك يسأمِ
وحين أصل إلى الحلقة الأخيرة من قراءتي لنتاجات محمد علوان القصيصة، أدرك الآن، وبرغم متابعتي الطويلة لإبداعه القصصي، أنني لم أفِ رحلته الإبداعية حقّها ولم أعبّر له عن ذلك شفويا كما ينبغي!
كما لا بد من القول بأن هنالك محاور أخرى كثيرة في كتابته كانت تستحق الوقوف عليها، من أمثال: محور الهمّ السياسي، وحضور المكان في نصوصه التي تنهل من معين الحياة في القرى وغياب المكان في نصوص المدينة، وفي معنى الاغتراب الإيجابي التي حفلت به مجموعاته، وعن التفرّد الإبداعي في كل ما كتبه، وعن خصوصية الارتباط بالجدّة كامرأة وغياب الرجل الجدّ!! وأحسّ بصدق أن كل ما كتِب عنه، رغم خصوبته، لم يقف على إبداعاته كما تستحق.
ولعل كتابتي تفتح الباب للمهتمين بهذا السياق الفني لكي يتأملوا متن نصوصه المكتنزة بإمكانات قراءات أخرى أكثر عمقاً لهذه التجربة الثريّة!