سهام القحطاني
نستطيع أن نقول أن ثمة مسألتين «أعرجتا» فكرة القومية العربية بصورة مباشرة، المسألة الأولى هي إخراج الدين من بناء فكرة القومية العربية، هذا الإخراج الذي بلا شك جرى على العرب مع التراكم ما نعيشه من تطرف و إرهاب؛ فلكل حاصل أسباب مُوغلة في القدم، إنها طبيعة «سيكولوجية الأحداث».
أراد مؤسسو الفكرة القومية العرب تأسيس عقيدة جديدة للوعي العربي،وهذا التأسيس يقوم على النقض و الإحلال؛ إحلال العقيدة القومية محل العقيدة الدينية.
و ظن المؤسسون الأوائل لفكرة القومية العربية أن معاناة الشعوب العربية من الدولة الدينية العثمانية قد تدفعها إلى الاقتناع بأهمية مسألة الإحلال والتبديل بين الدين و القومية العربية، لكن هذا الظن لم يكن يعتمد على وقائع فعلية و مكاشفات لطبيعة الوعي العام في ذلك الوقت،إنما اعتمد على الظاهر الوجداني الذي كانت تروجه الأذرع الإعلامية لمؤيدي و مؤسسي القومية.
وهذا حال النخب العربية دوما؛تظن أن من حقها ممارسة الوصاية على الشعوب و اتخاذ القرارات نيابة عنها، ولذلك ما تلبث تلك النخب من الوقوع في فخ الفشل والغربة عن شعوبها.
كما ظنوا أن الانفصال عن الدين قد يسهل الوعي الشعبي للاندماج مع المكونات النهضوية، وهم بذلك أوجدوا بصورة غير مباشرة علاقة ارتباطية بين الدين والرجعية، مقابل القومية العربية -كونها الممثل الجديد في ذلك الوقت للعصرية-وارتباطها بالقيم النهضوية، وهذا الارتباط الذي طبع قيم النهضة والعصرية في الوعي العربي بالانحلال و التفسخ و إضاعة الهوية الدينية و الموروث الأخلاقي و الاجتماعي.
ولاشك أن مكون الدين عند العرب هو مكون أصلي وليس مكونا ثانويا أو استثنائيا أو طارئا يمكن الاستغناء عنه و تبديله بمكون آخر،وهذا السبب هو الذي جعل الشعوب العربية في وعيها الإجمالي ترفض مسألة تحويل القومية العربية إلى مكون أصلي يقوم مقام الدين أو يسانده.
إضافة إلى أن الوعي العربي فهم مالم يفهمه مفكرو العرب؛ أن ما أصاب الشعوب العربية في ظل الخلافة العثمانية كان حاصل الخلل السياسي وليس حاصل خلل في الدين.
والأخطر في فكرة القومية العربية أن انفصالها عن الدين أسهم في إنشاء المعارضة الدينية في الوطن العربي من خلال حركة الإخوان في مصر والحركة الوهابية في شبه الجزيرة العربية.
وتلك المعارضة الدينية انبنت على كره قيم النهضة والعصرية،كونهما يمثلان البديل الافتراضي الإحلالي للدين، وهو ما حوّل القومية إلى معادل للكفر،ومن هنا تأسست البذور الأولى» لثقافة التكفير» في المعارضة الدينية.
إن تشكيل أي فكرة لمسار نهضوي يمثل علاقة تأثيرية يقوم على «الواقعية».
و الواقعية بدورها تتشكل من خلال التصديق والمعرفة؛ التصديق يعتمد على إيمان الوعي الشعبي بالقيمة المضافة،بشرط أن تكون داعمة لمكون أصلي و موسعة لتوصيف أو مقوية لعنصر دائم،وبذلك فالحذف غالبا ما يواجه بمقاومة وخاصة وإن كان مختصا بمكون رئيس أو أصلي في عقيدة ذلك الوعي.
أما المعرفة فتعتمد على وجود تاريخ واضح و ناجح لتلك القيمة،وهذا التاريخ يحقق الطمأنينة للوعي بضرورة تلك القيمة و فائدتها.
والدين في الوعي العربي الشعبي يحقق تلك الواقعية بممثلاتها.
وهو مالم تقدمه وتحققه فكرة القومية العربية، فهي لم تقدم ما يمكن أن يمثلها كواقع، يضمن لها حدّ موضوعي من الصدقية، ولم تستطع التنظيرات الفكرية لفكرة القومية والدعم السياسي لها أن توفر لها تاريخا يحقق من خلاله الطمأنينة للوعي العربي الشعبي، وبذلك انتصر الدين على فكرة القومية، وكان ذلك واضحا في توسع و امتداد الظهير الشعبي للمعارضة الدينية.
لم تستطع فكرة القومية العربية أن تقدم حلولا إجرائية تنويرية أو اقتصادية لعيوب المجتمعات العربية الحديثة التي خرجت من عباءة الدولة الدينية العثمانية، أو تسهم في بناء مسار نهضوي يتصف بالعلمية و العقلانية.
وذلك العجز بسبب أحادية الهيكل التوصيفي لفكرة القومية،افتقارها للسلاسل الإجرائية التي تخطط وتنظم عوامل الوحدة واستدامتها، تغيّبها لأثر الوعي الشعبي.
على العكس فقد أغرقت الوعي العربي في حماسة وجدانية مفرطة، لم يستيقظ الوعي العربي منها إلا على هزيمة 67م،لتفسح المجال للجميع للوقوع في «كوما فكرية» مازلنا نحصد ثمارها المرة حتى اليوم.
وهنا نأتي إلى المسألة الأخرى التي «أعرجت» فكرة القومية، وهي هزيمة العرب من إسرائيل، وقبلها فشل الوحدة بين مصر وسوريا زمن الرئيس المصري جمال عبد الناصر والرئيس السوري شكري القوتلي، ثم الانقسام البنيوي لفكرة القومية ما بين الأدبيات الناصرية وأدبيات حزب»البعث العربي».
إلا أنّ هزيمة العرب 67 هي التي قصمت ظهر فكرة القومية ودفعت بعض مؤيدي القومية أنفسهم إلى «الكفر بها»،الذين اكتشفوا وهم القومية و فشلها في صناعة وحدة عربية قوية يدعمها نظام شمولي،ثم غزو العراق للكويت،التي نقلت فكرة القومية والبطل القومي إلى متاهات الخداع و الألم.
أما جامعة الدول العربية التي انبثقت من خلفيات فكرة القومية فنجحت في تجميع العرب وفشلت في توحيدهم، واستمرار جامعة الدول العربية كرمز معنوي للقومية العربية قد يجده البعض استمرارا للأمل في عودة فكرة القومية الغائبة إلى أبنائها في يوم ما.
وفي ضوء الفكرة العامة للقومية ظهرت فكرت التكتلات الإقليمية في الخليج و أفريقيا، بسبب الحدود الثنائية المشتركة وما تمثلها من مصالح مختلفة، وليس من أجل عيون القومية العربية.
لاشك أن النفعية التي أصبحت تتصف بها الأنظمة السياسية العربية وتُطّهر منطقها من الوجدانيات التي لا تغني ولا تُسمن من جوع، أصبحت هي التي تتحكم في معادلات المصالح بين الأنظمة العربية ومشاركاتها وحسابات الأخذ و العطاء، وهو ما أقام مصالح الأمن والاقتصاد مقام القومية.
أما الوعي العربي العام فلم تعدّ القومية تعني له قيمة مضافة أو مقطوعة من حسابه الوجداني،فقد انقسم وفق واقع الحياة اليوم إلى وعيين؛وعي أنهكته المتاعب الاقتصادية والركض وراء لقمة العيش فلم يعدّ يؤمن إلا برغيفه، و وعي انتزعت دوامة العولمة و العوالم الافتراضية هويته الخاصة فلم يعدّ يؤمن إلا بالإنسان الكوني.