في مقالي المعنون بـ(حصر المفاهيم و مأزق القيم) شرحت فيه أن كيف يؤثر حصر مفهوم في مصطلح وتقنين معناه بمثال واحد ينحصر في مفهوم المصطلح. ولأن لكل مفهومٍ مصطلحٌ يخصه ويرسم صورته الذهنية كان لزاما أن نربط بين المقال السابق وهذا المقال كي تكتمل حلقة المعنى, وتنحل الإشكالية بأبسط صورة حين نشخص إشكاليات القضية.
من أزمة حصر المفهوم إلى أزمة فهم المصطلح التي دائما ما تكون شرارة الانفعال حين تُمس بسوء, وسنفند مصطلح «التغريب» ونضعه تحت المجهر كمثال لا للحصر.
التغريب له معنين وكلامهما لهما نفس الانطباع عند المجتمع, فقد يأتي بمعنى التشبه بالمخالفين, وقد يأتي كحالة من الحالات الاجتماعية والتي لها علاقة بسلوك ديني لا يطبقه إلا قلة بين أكثرية مخالفة, وله دلالة زمنية.
أما معنى التغريب كتشبه فهو من مصدر غرب. و لو بحثنا جغرافيا عن موقع الغرب فسيشمل كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية. وهنا يجدر بنا السؤال لماذا هذه المنطقة الجغرافية دون غيرها؟, لماذا لا يوجد مصطلح «التشريق» ويشمل الاتحاد السوفيتي, الصين واليابان؟!. الجواب لا يكون إلا بدراسة حال دول الغرب من حيث القوة السياسية والقوة الفكرية والعلمية. وأيضا بعلاقة العرب بالغرب.
فعند البحث عن الجواب سنجد أن هناك ترابطا فكريا ومعرفيا بين العرب والغرب منذ عهد الدولة الأموية حتى ورث الغرب الهيمنة من ثلاث قرون تقريبا وتحول الغرب من مستهلكين إلى منتجين لأبحاث علمية وتكوين قوى
سياسية. وفي هذه اللحظة شعر العرب بضعفهم وتفوق الغرب في المجالات العلمية مما جعل من محمد علي باشا في القرن الثامن عشر أن يتخذ قرارا جبارا وهو ابتعاث المصريين للنهل من علوم الأوروبيين. وكان من بين الذين حولوا منحنى الوعي المجتمعي أمير النهضة رفاعة الطهطاوي. حيث أسهم في إنشاء العديد من المؤسسات التعليمية والتطويرية الجديدة على المجتمعات العربية. ومن الطبيعي أن يكون لكل مشروع معارضة ومصطلحات جديدة مع أو ضد أي مشروع فقد يأتي مصطلح المعارضين لها باسم «التغريب» نسبة لمصدر المصطلح.
كما أن الغرب كانت له مشاريع فكرية متنوعة في كيفية الهيمنة ودراسة للمستوى الفكر للأمم من حولها بما فيها الأمة العربية. وهذا مما جعلهم ينجحون ويؤثرون أكثر من الاتحاد السوفيتي الذي كان يحرص على الهيمنة
العسكرية أولا.
والمعنى الآخر وهو الحالي وهو وصف لمدى بُعد أغلب المسلمين عن عادة يعملها قلة مستمدة من نص شرعي وتُواجه بالمنع. وهذا المصطلح مستمد من نص شرعي حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم «... طوبى للغرباء» ومن يكرر هذا المصطلح لا تخلو صورته الذهنية من أنه في آخر الزمان, حاملا معه البؤس والتشاؤم, وكلما حدث حدثٌ يكرهه أو يمسَ بسوء ما يؤمن به يلهج بهذا المصطلح. صارفا ذهنه عن كمية الخير من حوله.
وقد أزعم أن هذه إحدى الصور الذهنية التي تتركز في خيال أي منتمٍ للجماعات الإرهابية أيا كان معتقدها ومنطلقاتها, لأن الشعور بالقلة والضعف والوحدة يعطي دافعا للتمرد وللكره.
خلاصة القول إن التشخيص في قضايانا منذ ثلاث قرون وحتى الآن لم يكن إلا كردة فعل لشعورنا بالهزيمة والنقص أمام الغرب. مع تخوف من علاقة الغالبين بقضايانا والزن على هاجس المؤامرة, ولا عجب أن نكثر من مصطلحات التنفير المجوفة, والتي سرعان ما تذهب ويبقى المصطلحات المليئة بالمحتوى الفكري والتنموي.
قد سبقنا في ذلك ابن خلدون في تشخيص هذه الحالة، حيث قال في مقدمته: «المغلوب مهووس بمحاكات الغالب» نعم. نحن مهووسون بالغالبين لدرجة إما أن بعضنا انسلخ عنا وذهب لهم أو أنه زاد هوسه فظل في صدام مع أمواج
البحر المتوسط حتى أغرقته.
الغرب ليس بحاجة لأن يكرسوا مراكز أبحاثهم العلمية في استهداف معتقداتنا, كل ما يردونه هو العقل الذي هو الثروة الحقيقية, ومن الطبيعي أن يكون لهم أيديولوجيا ليصلوا لمبتغاهم. تتناسب مع نمط المجتمعات المستهدفة.
** **
- أنور عبدالله دمهاس