عشق الإدارة منذ نعومة أظفاره ،كان بريقها يجري في دمه ،مجرى الشيطان من دم ابن ادم ،أحيانا كانت هي الشيطان ،وأحيانا أخرى كانت منتهى الشهوة والنعيم.
شاءت الأقدار أن يجايل في بداياته العملية، كبارا في السن ،يختلف معهم في أكثر الأشياء ،عدا حب السلطة وعشقها، فهم متفقون حيالها، جلهم على وشك الموت وظيفيا، اكسبتهم الوظيفة ونظامها القديم ،رتابة في الحضور والإنتاجية ،على عكسه كان يحب العمل ويعشقه ،كان قارئا نهما لأمهات الكتب ،كان يحاول تطوير نفسه في مجتمع بالكاد يفك أقدرهم وأجدرهم ،أبسط أبجديات اللغة ورموزها.
آمرالمكان ،كان خليطا من كل شيء ،كان نشازا في تأهيله العلمي، وسلوكه حتى غموضه -وتحت وقع ما يتغشاه أحيانا من سذاجة تنعكس عليه- جعله كالكتاب البسيط المفتوح ،متاح للقراءة والفهم وأحيانا السخرية.
فى يوم من الأيام اقترح صاحبنا فكرة تطويرية للعمل ،كان حماسه يفوق الوصف وكان الآخرون حماسهم أكثر في وأده إنسانا وفكره !
تحمس آمر الإدارة للفكرة وأثنى عليها ثناء وجلا كعادة المفلسين الإداريين عندما يلوح لهم في الأفق بادرة إصلاح أو تغيير إداري.
أخذ صاحبنا يكتب ويتواصل مع الجهات الأخرى
منهمكا في توثيق أفكاره ورؤاه بأسلوب إحصائي يعتمد على الأرقام كلغة شفافة لا تحتمل التأويل أو التحريف .
هنا بدأت المعاناة، الجميع ضده ،والالة الإعلامية للمدير وبطانته، تصليه نارا حامية، مرة تنعته بصاحب المشاكل ،ومرة بالمريض النفسي ومرة بالخائن الذي ينبغي صده ودرأه.
وصلت الأمور إلى أن تصبح أذيته من أجل أنواع الاحتساب الإداري ،فالجميع يراه المفسدة التي ينبغي إنكارها ،وكانت الغيبة والنميمة وسائلهم و
كان الاجتزاء إحدى طرقهم لمحاربته، المهم أن يكون صاحبنا متنا لكل مشكلة، وتكون حربه فرض عين على الجميع بما فيهم المتردية والنطيحة و ما أكل الدهر.
آمر الإدارة كان مشغولا بتوجيه سدنته وخدامه ،كانوا يسعون جادين للإتيان برأس صاحبنا، وكان المسكين معزولا وحيدا، يعيش غربتين ،الأولى انحسار الناس عنه ،والثانية انقلاب أصدقائه عليه ويقينهم بأنه قد أصبح رهانا خاسرا ينبغي تركه لدرجة أن أقرب أصدقاؤه منه في ذلك الزمان سألوه أن يبتعد عنهم داخل أسوار العمل لأنه أصبح الشبهة التي ينبغي الابتعاد عنها ودرأها واحتساب أذيتها.
نجحت الأكثرية في ترويع صاحبنا ،وتم نفيه خارج أسوار الإدارة ،كونه عامل هدم لرتابة ورجعية أريد لها البقاء.
وبالرغم من مرور أكثر من عشر سنوات على أقصائه ،ما زالت سيرته حاضرة في صدور أولئك الموتورين ،ومازال اسمه المرادف للشيطان في قواميسهم النتنة وما زال ذكره يثير حفيظتهم ،والسبب أنه كان مختلفا ملتزما فيما الآخرون مكررون يعيشون رتابة الحضور وتكرار المشهد.
صاحبنا ليس وحده ولم يكن الاستثناء الوحيد في عالمنا الإداري المليء بالمتناقضات ،والإقصاءات والشللية.
لقطة الختام ،كانت لقاء عابرا لصاحبنا مع أحدهم ،بادره ذاك الأحد قائلا في شماتة وتندر ،أرى الشيب تغشاك ؟،رد صاحبنا :-أتعني أنني تغيرت ؟،قال الآخر :-هو ذاك !،قال صاحبنا :-فاحمد ربك ياهذا أن جعلك ثابتا لم تتغير ولن تتغير ،ولم تزدك السنون إلا تشبثا بأفكارك القديمة وعقلك الصدأ ،أنا تغيرت وأحمد الله على ذلك ،أما أنت فما زلت كما كنت تجتر ذاتك، وتعيد استنساخها ،الجديد فيك ،البشر الذين يعرفونك ثم يندمون على أوقات أهدروها معك ولك، يلبثون معك حينا من وقت ثم يتجاوزونك إلى تجارب جديدة ونجاحات متعددة ،أما أنت فتظل استراحة عابرة ،يعرف الواحد من خلالك ويعيش معنى قول الشاعر :-ياضيعة الأعمار ضاعت سبهللا !.
** **
- علي المطوع