لعل أقرب روايات معلوف لأجواء رواية «ليون الأفريقي» هي رواية «رحلة البلدسار» 2000، بعد صدور خمس روايات أخرى مختلفة، حيث المواضع والموضوعات والشخصيات التي تستثير غالباً شغف معلوف وتأخذنا معه في ترحال يبدو عبثياً، وإن تكن فيه كل المعاني والمتع.
تسرد الرواية حكاية بائع كتب على الساحل السوري في النصف الثاني من القرن السابع عشر، تعود أصول أسرته إلى عائلة تجارية إيطالية شهيرة من «جنَوى»، حيث سبق لأسلافه المساهمة في الحروب الصليبية واحتلال إحدى مدن الساحل، وهي التي يمتلك فيها «بلدسار» مخزناً مزدهراً للكتب.
إذن بائع كتب من أصل صليبي لا يزال يفتخر بجذوره الجنوية وهو مواطن عثماني يعيش في أرضٍ عربية، يتقن عدة لغات ويبيع الكتب والمخطوطات بلغات عديدة وزبائنه من مختلف الأعراق والثقافات، لكن هل يكفي هذا ويلبي شغف معلوف بالتنوع؟.. لا لا يبدو ذلك كافياً.. فلا بد من ترحال.
يترك «بلدسار» بلدته «جبيل» ومخزن كتبه ويرحل خلف كتابٍ ثمين باعه على عجل، يرحل إلى آخر الدنيا عابراً المدن والقرى والأنهار والبحار ومختلف المخاطر. يصل إلى مركز الدولة العثمانية، التي مضى على قيامها قرابة قرنٍ ونصف، حيث تتغوّل الانكشارية في كل شيء، وحيث تتأرجح كفتا الإسلام والمسيحية وتنتشر الكنائس كما المساجد، وحيث يكاد يفوق عدد المسيحيين نظراءهم المسلمين، وحيث يجد هناك كل اللغات والقوميات وانشغال الناس بنُذر نهاية العالم. وأهم من ذلك يجد الخيط الذي يوصله إلى الكتاب، ضالته المنشودة، والذي قد يكون فيه الترياق لنهاية العالم، ولكن أين سيجده؟ في لندن.. ودون ذلك خرق البحار والأهوال.
يجتاز أوروبا المتخبطة بفوضاها الدينية، مروراً بمحطات كثيرة ليس آخرها «جنَوى» التي لم تستطع خمسمائة عام من الغربة أن تمنع أشواقه للاستقرار فيها، لولا شوقه الأقوى لكتابه الموعود في لندن. وفي لندن المتعافية حديثاً من ثورة «كرومويل» الدموية لإزاحة الملكية العريقة، ورغم ما يُفترض أن تحققه من رفع وتيرة الحرية، إلا أن التكفير لا يزال سمة اجتماعية عامة، بل يكفي أن يكون المرء غريباً لكي يُرمى بالتكفير.
يقبع «بلدسار» طيلة إقامته، هرباً من العامة، في قمة مبنى عتيق تشغل أسفله حانةٌ ستكون نادلتها صديقته المنقذة وتشغل أعلاه مكتبة رجلٍ كنسيٍ متحرر يكون بحوزته الكتاب المنشود، ويكون ثمن الحصول عليه أن يقرأ هذا الكتاب العربي مترجماً للاتينية على هذا الإنجليزي العتيق.
تتراكم الوقائع المشؤومة خلال قراءة الكتاب وتبلغ ذروتها في حريق لندن الشهير، ويكون «بلدسار» أحد الناجين القلائل من الغرباء لا من الحريق فحسب وانما من تعذيب العامة باعتبار الغرباء الكفرة هم سبب الحريق.
نمطٌ فريد من الرواية يتميز به أمين معلوف، حيث تمتزج الأمم واللغات والأديان والثقافات، وأكثر منه هذا الشغف الخاص بنهايات دولٍ وحضارات ولحظات الانبعاث لأخرى، ثم أولئك الذين يقفون، أو يتحركون على خطوط التماس حيث يختزلون حقبة غروب أو يدشنون لحظة انبثاق، وهو ما يتمايز عن ركام رواياتٍ نمطيةٍ سكونيةٍ تملأ الفضاء.
وإذا كانت هذه الرواية هي قصة كتابٍ مشؤوم، فإن روايته الأسبق «سمرقند» 1986، هي قصة مخطوطٍ نادرٍ وفريد.
وكعادة معلوف فإن مسرح الرواية يمتد ويستطيل من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، بل إن مصير المخطوط يبدأ من أعماق القوقاز وينتهي في أعماق المحيط الأطلسي قرب سواحل نيويورك.
إنه مخطوط «رباعيات الخيّام» بخط الخيام، وهو ما يُظن بأنه الوحيد، وعلى هوامشه قصة حياة عمر الخيام الشاعر والرياضي والفلكي والفيلسوف. وعلى هوامشه أيضاً قصة السلطنة السلجوقية الكبرى التي عاش في كنفها وشهد أمجادها وانخذالاتها. كما ارتبط بمواقع النفوذ الأوسع فيها بدءاً من بلاط السلطان الفتيّ ملكشاه إلى مجلس الوزير المخضرم نظّام الملك سيد السلطنة بلا منازع والأب الروحي للسلطان مروراً بعشيقة الخيام، شاعرة البلاط ومستشارة السلطانة، والتي كادت أن تصبح وصيّة على العرش قبل موتها بيومٍ واحد.
وما الذي يفعله الخيام بكل هذا النفوذ وهو الأكثر ابتعاداً عن السلطة والأزهد عن الانغماس بشؤونها، وقصاراه كتابة الشعر والعمل في مرصده الفلكي وزمنٌ ليلكيّ يقضيه بين عشقٍ متوهج ونبيذٍ معتّق.
وإذ يبدو وكأن المخطوط هو موضوع الرواية، إلا أنه لا يعدو أن يكون أداةً لكتابة تاريخ فارس في حقبتين، فالمسرح هذه المرة ليس المشرق بل هو الشرق، وجانبَي المسرح هما شرق الشرق وغرب الغرب. وإذا كان المخطوط قد كُتب في أجواءٍ ملكيّة وفي لحظة عشقٍ فارسيةٍ شرقيةٍ خالصة، فإن قراءته جرت بعد تسعة قرون في أجواءٍ ملكية مماثلة ولحظة عشقٍ تجمع بين أميرة فارسية ومغامرٍ أمريكيٍ مثقف.
** **
- عبدالرحمن الصالح