في نهاية الرحلة وفي طريق العودة على متن عبارة «فرسان» وهي تمخر لجة البحر في يوم عالي الأمواج بين جزر فرسان ومدينة جيزان والفكر سارح لمعرفة لغز أبو علي وبيت الجرمل! لا أدري لماذا هذا الربط بين ذاك المسن وبيت الجرمل المهجور؟ هل هي آثار السنين على محيا أبو علي وتجاعيد الوجه التي رسمتها قسوة الأيام، كما رسمتها على ملامح وأطلال ذلك البيت المهجور مع تساقط الأحجار وهوي الأعمدة، أم هو اجتماع الشموخ والبساطة والرضى في آن واحد على مظهرهما رغم قسوة التحديات وجور الزمان عليهما! لا أملك إجابة ولكن لنروي الحكاية من البداية.
في رحلة صيد بحرية في جزر فرسان وبعد يوم صيد ممتع ووافر، وفي طريق العودة اقترح قائد المركب بكل فخر واعتزاز أن نزور بيت الجرمل، فاستغربت الاسم ولم أفهم ما الذي يعنيه ببيت الجرمل، كانت المرة الأولى التي أسمع فيها هذا الاسم، ملامح الاستفهام على محيانا جعلت قائد المركب يتوجه إلى هناك دون أن ينتظر إجابة وحسناً فعل، فقد كانت مفاجأة رائعة.
انهمرت أسئلتنا واسترسل بالإجابات وكأنه عالم آثار قد أزاح الغبار عن إحدى اكتشافاته الأثرية، وشرع يقرأ نقشاً أثرياً وأعيننا شاخصة منصتين لكل حرف يقوله، أخبرنا أن بيت الجرمل يقع على جزيرة قماح التابعة لأرخبيل جزر فرسان، هذا الموقع الاستراتيجي المطل على الممر الدولي في البحر الأحمر والمتحكم في حركة الملاحة من قناة السويس شمالاً إلى باب المندب جنوباً جعل قوى العالم في عصر ما قبل الحرب العالمية الأولى تتصارع عليه، حتى أن أول وجود للألمان بشكل رسمي في هذه المنطقة كان على هذه الجزيرة تحديداً، حيث قاموا ببناء ضخم وفقاً للفترة الزمنية آنذاك، وجعلوه مستودعاً للفحم الحجري لتخزينه وتزويد سفنهم العابرة للبحر الأحمر، وأطلق عليه السكان المحليون بيت الجرمل، ونفاجأ بأن الجرمل كلمة مشتقة من الجرمان أي (الألمان)!
بعد زيارة البيت الشامخ على ساحل الجزيرة، وفي طريق الإياب إذ بصياد يسكن بجوار هذا المعلم التاريخي المنسي يلوح بيديه ويدعونا لتناول الشاي، فقررنا التوقف والتعرف على شخصية أبو علي الصياد السبعيني، من سكان فرسان إلا أنه دعانا لسكنه الثاني المؤقت على سيف جزيرة قماح، والذي يسميه (العزبة)، يأوي إليه بعد عناء ومشقة أيام الصيد المرهقة، مبني من الأخشاب والصفيح ومزين بالمحار بأحجام مختلفة تدل على ذوق رفيع، ورغم بساطة السكن ترى الرضى يشع من عينيه مع كل ابتسامة، وملامح السعادة واضحة بما قسم الله له، كل ذلك جعل الغبطة تسكن أعيننا وإن لم تصل حد الحسد بهذه السعادة والقناعة.
دارت أحاديث عن تاريخ الجزيرة وقصص الصيد ومغامراته مع تناول الشاي مع النعناع المنعش ثم ودعنا مضيفنا، وللوداع كلماته وطقوسه الخاصة بكل شخصية إلا وداع أبو علي فقد أحسست أنه وداع بيت الجرمل تلبس بلسان أبوعلي لينطق تلك الكلمات بعبرة حزينة، قال: (إن حضرتم ولم تجدوني فاذكروني)، أعقبت العبارة التفاتة مني إلى قصر الجرمل ، هل هي دعوة مبطنة للاهتمام بذاك الصرح الأثري المتوحد بتاريخه والمحافظة عليه قبل أن يكون قصة وأسطورة تروى بعد أثر!
** **
- د. الوليد عبد الله العيدان
@aleidanwa1