عادة ما يرتبط مصطلح «ترميم المُدن» لدى المعاصرين بالبناء والعمارة، وفي كثير من الأحيان يتوقف عندها ولا يستطيع أن يتجاوزها وجدانياً إلى أروقة البعد «السياحي» بعناصره الثقافية والاجتماعية المرتبطة بـ»ذاتية المكان» والتي كونت مرجعية رئيسة لمنظومة الحياة والعمران داخل هذه المدن عبر عصور من الزمن. لذلك فإن الحديث عن المدن كوعاء «سياحي» للمحتوى المكاني يتطلب استدعاء ذاكرة مطلقة قادرة على تسجيل كل شيء و»ترميمه» وإعادة تقديمه كما كان ولكن من خلال فلسفة جديدة يفهمها الجميع ويستطيعون التعايش معها، فالملامح العمرانية لأي مدينة دائماً ما تعبر عن مضمون حياة الناس الذين يعيشون فيها، لذلك لا يمكن فصل الإنسان عن العمران عند التعرض لفلسفة «المكان» ومفهوم «الاحتواء» الذي يجسده الحيز الحضري للمدينة ومكوناتها ونظم علاقاتها.
في عام 1960م، حدد «كيفن لينش Kevin Lynch» عناصر المشهد الحضري بالمسارات، والحواف، والأحياء، والعقد، والمعالم في كتابه «الصورة الذهنية للمدينة» معتمداً وبشكل رئيس على تحليل قدرات الإنسان التي تؤهله لفهم محددات البيئة العمرانية المحيطة به ومن ثم تمكينه من التفاعل معها - وهي عادة ما تبقى في ذاكرة السائح -، لذلك فإن جدلية الإنسان والمكان ومن منهما يؤثر ويتأثر بالآخر هي المعادلة التي تُبنى عليها النظرة المتوازنة لترميم المدن بمفهومها الشمولي، إذ لا يمكن أن نركز على تأهيل العناصر المادية دون أن يوازي ذلك إعادة لبناء ثقافة الإنسان وترميمها هي الأخرى لنضمن إدراكه لمكونات الحياة وعناصر عمارتها وتفاعله معها.
«إن كانت هذه هي أرضك فأين هي قصصك» مقولة لشيخ قبيلة هندية حينما رد بها على وفد مفاوض في غرب كندا لانتزاع أرض عشيرته، لم يجد أبلغ منها لإثبات أحقيته وانتماءه، حينما ربط الثقافة بالمكان، وهي عنوان لكتاب «إدوارد تشمبرلين» ناقش فيه العلاقة التبادلية بين ثقافة الإنسان وبيئته العمرانية المحيطة به من خلال عرض لأفكاره حول ما يحدث من صراعات على الأرض في أماكن مختلفة من العالم، ويؤكد «تشمبرلين» على ان التاريخ الشفهي ينشأ من حياة الناس في المكان ويتحول إلى ثقافة ثم إلى وثيقة تثبت انتماء كل منهما للآخر، وهكذا يتم تشكيل الهوية بإبعادها المختلفة، لذلك فالعودة إلى بناء المشهد الحضاري السابق يحتم معرفة كل السيناريوهات التي مرت بها تلك الأماكن والتعرف على أدق تفاصيلها، وهي في الأخير تمثّل المكوّن الرئيس للمنتجات التي يمكن للمدينة تسويقها سياحياً.
مُدن شيدت خلال قرون من الزمن لا يمكن أن تُرمم في عُمر نسبي قصير مقارنة بتاريخها الطويل، إلا إذا كنا سنقبل بتحنيطها وإعادة تقديمها مرة أخرى كـ»مومياء» صامتة بلا روح، سيكون ذلك أشبه بمسخ للتاريخ واجتثاث للمرجعية الحضارية، وقضاء على مبادئ العيش، ووأد للغة المكان. إن من أخلاقيات الترميم أن نقف على مسافة واحدة بين الأمس واليوم وغداً، فنحن نمارس من خلاله فن من أرقى فنون الحياة، وكما هي «المقامات الموسيقية» وسيلة الفنانين في التعبير عن الحالة المزاجية للإنسان، فإن الترميم وسيلة المرممين في التعبير عن ثقافته، وهنا مكمن الذوق الرفيع.
ترميم المدن وفق الوصف الذائع هو أقرب إلى «الموسيقى المجففة « داخل أنساق العمارة، كونها تمثل سيمفونية كامنة في أروقة توارت مع الأيام، هي بحاجة إلى متذوقون وفنانون يبحثون عنها ويفتشون عن أسرارها، لطالما كانت المدن بعمارتها عبر مئات السنين مصدر إلهام للإنسان، استطاع أن يبني داخلها «جوق سيمفونية» من أبناء محيطة ليحولها إلى «أوبرا» مكانية تُعزف بها كل تفاصيل الحياة، ثمة قيمة عالمية لما وراء الترميم الذي يجسد مجموعة الفنون القادرة على خلق توازُن بين المظاهر الروحيّة للإنسان مَع الجوانب الماديّة فِي حياته . هناك بُعد أكثر عمقاً لهذا الحقل الفريد، بحاجة إلى سنوات متراكمة من البناء بغية الوصول إليه، فثمة «قيم» لا تُشترى، ولكن باستطاعتنا «ترميمها».
** **
المهندس بدر بن ناصر الحمدان - متخصص في التخطيط والتصميم العمراني وإدارة المدن