د. محمد بن إبراهيم الملحم
انتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي مقطع خلال الأسبوع الفائت حول موضوع في أحد مقررات اللغة العربية للبنات يتضمن سؤالاً وعليه إجابة من متعدد أحدها يتضمن عبارة أثارت حفيظة صاحب المقطع ومن نشروه بعده وكذلك من صنعوا صورة ثابتة لتلك الصفحة ودائرة حول العبارة مستنكرين ذلك ونشروها بعدة أشكال وتعبيرات متنوعة!
العبارة التي أثارت حفيظة المنتقدين تقول «مهما كانت قيمة الحياء كبيرة إلا أن الشباب مرحلة رائعة في حياتنا، دعونا نستمتع بها بلا قيود أو ضوابط اجتماعية وأخلاقية»، ويرون أن في هذا دعوة للخروج على القيم والثوابت الإسلامية وبل والعرفية التي تربى عليها هذا المجتمع، وهم صادقون في ظنهم خاطئون في تصرفهم، وأقول لهؤلاء هل تعلمون أن المقررات التربوية الغربية لا يمكن أن تتضمن مثل هذا الكلام فهو مصادم لأبسط قواعد الحضارة والوعي الإنساني السليم، فمن سينادي بتجنب الأخلاق! حتى الملحدين أنفسهم لا ينكرون أهميتها لكينونة المجتمع المدني، وأتعجب من فهمهم للعبارة بهذه الطريقة وهي مجرد خيار واحد من عدة خيارات لسؤال اختيار من متعدد كان ترقيمها هو (ج) بينما كانت كلا من الإجابتين (ب) و (د) صحيحتين، فالأولى تمدح الحياء أنه أصل لكل فضيلة والثانية تمدحه أيضاً أنه لا يتعارض مع بناء الشخصية المستقلة، ويتوقع أن تختارهما الطالبة كإجابة مفضلة أو فضلى ليعكس خيارها فهمها للدرس الذي يرشدها إلى أحدهما، بينما لو اختارت الطالبة العبارة (ج) محل الجدل فهذا سيعطي الفرصة للمعلمة للتعليق والتصحيح. إن هذا الأسلوب في تحصين الشباب والفتيات من الفكر المنافي للأخلاق أفضل من أسلوب التلقي المباشر، إذ يغذي المهارات العليا للتفكير ويغرس المعلومة بقناعة راسخة قابلة لمواجهة التحديات الفكرية التي قد تشوهها مستقبلاً.
ماذا يعكس هذا النقد الأعمى تربوياً؟ أعتقد أنه يعكس فقراً خطيراً للثقافة التربوية السديدة فقد وصلني هذا المقطع من معلمين ومشرفين ومثقفين ومرره كثير ممن يفترض أن لديهم الوعي الكافي لمناهضة مثل هذا التصرف! كما يعكس الأمر أن بعض أصحاب الغيرة والحماس للفضيلة والأخلاق خاوون تربوياً، وإن وصفوا بعض المعارف التي تلقوها في بعض المصادر بـ «التربوية» بيد أنها تربوية في المحتوى الفكري لا في المحتوى المنهجي، فهم لم يفقهوا الفكر التربوي وأساليبه الحديثة الفعالة. ولا زلنا في الواقع نشهد سيادة أسلوب التلقين وعدم قدرة المعلمين (والمشرفين) على التخلص منه، كما أن كثيراً من البرامج التربوية التدريبية التي تدعي أنها تقدم فكرا تربويا حديثا تراوح في مساحات محدودة ولا تتقدم للأمام لتستكشف المزيد من الأساليب التربوية الفعالة، وفي العموم فإن محدودية الفكر التربوي الأصيل لدى كثير من الممارسين التربويين القدوات (وكثير من المسؤولين أيضاً) هو أمر مشهود لدى من يملكون أدوات التقدير.
ملمح آخر هنا هو كم نتمنى أن نرى هذه الغيرة على الفكر المستهدف لأخلاق طلابنا وطالباتنا منعكسة أيضاً على ما يمارسه المعلمون والمعلمات من أخلاقيات في المدارس لتزرع في الطلاب والطالبات روح تقبل الممارسات الخاطئة والاقتداء بها بل ويكرس فيهم السلوك اليومي تشرب ذلك والاستمرار عليه، فاستهتار المعلم مثلاً أو مخالفة المعلمة أنظمة المدرسة أو سوء الألفاظ منهما أو إهمالهما المكشوف في الأداء التدريسي والاختبارات وما إلى ذلك من التصرفات والسلوكيات المكشوفة هو أخطر على الطلاب من عبارات مكتوبة في المقرر المدرسي يمكن لولي الأمر بسهولة أن يقنع أولاده أنها غير صحيحة، لكن هل أثارت تصرفات بعض المعلمين الاستهتارية حفيظة الآباء وغيرتهم على أخلاق أولادهم؟ هل ينشرون بهذا الشأن في وسائل التواصل الاجتماعي؟ بل هل يتحدثون به في مجالسهم بنفس المستوى ليرتفع الوعي التربوي؟ أم هل واقعهم أن أحدهم يخشى أن يكون بين الجالسين معلم من تلك الفئة المستهترة فيقع في حرج منه فلا يتحدث في هذا الشأن ويتجاوزه إلى سوالف أكثر وناسة؟ لا عجب إذن إن ظل وعينا التربوي أعمى لم يبصر بعد..