د. خيرية السقاف
مما أُثِر عن سعيد بن جبير أنه قال: «ما رأيت للإنسان لباساً أشرف من العقل, إنْ انكسر صححه, وإنْ ذلّ أعزّه, وإنْ سقط في هوَّة جذبه, واستنقذه, وإنْ افتقر أغناه, وأول شيء يحتاج إليه البليغ العلم الممتزج بالعقل»..
وأضيف عن العقل إلى قوله قولي: إنّ عقل المرء ينفذ برجاحته في كفة الميزان دون سائر المقاييس..
وهو في المرء الطبيعي مضغة تُعوَّل قدراتها على الدُربة, والتعلُّم, والتجريب, والمدِّ بالمعارف, واعتراك التفكير, والخوض في موج التأمُّل, والتدبُّر, والتأويل, والتحليل, كذلك هو له شوارده, وهي تحتاج إلى تهذيب, وتشذيب بمزيد محكات, وإضافات باجتهاد, وجد, ومثابرة وعزم, حتى يُمكَّن فيه وعيُه, وتعلو قدرته فيكبح شطحاته, ويروّض نزواته, ويضبط بوصلته بحسن غذائه من كل ذلك, وبحفظ ملكاته, فتمكين مهاراته لتذليل مروق العاطفة, ونزوات الميول لتفيض عنه كفة الرجاحة حين تحتدم المواقف, فيشرُف فيها المرء بمهارة هذا العقل فيه, ويعلو بحكمته, ويضيء بملكاته, ويثبت بقدراته, ويشرق بمداركه, ويغلب بمنطقه, وحلوله..
العقل ليس فقط ما أقول, ولا ما قال ابن جبير, ولا ما جاء فيه عن الحكماء, والفلاسفة, من وصف, أو تعريف, لأنه في البدء هو من نعم الله التي وهبها للإنسان, وميّزه به بين بقية ما في الكون من خَلق ينبض, ويتحرك, ويتنفس..
فلئن كان العقل في الإنسان لباس شرفه, ومنقذه من سقوطه, ومعالجه من كسوره, ومعزُّه من هوانه وذلِّه كما قال سعيد بن جبير, أو كان كما قلتُ أنه الكامن الذي يفيض فيه بمقوّماته, المضفي عليه ملكاته, الكابح فيه صغائره, الممكِّن فيه قدراته, الشاهد فيه على كفته, المنتصر به في مواقفه, الممثل له في معتركاته, البالغ به مدارك طموحاته, الميزان لوعيه, ومنطقه, وفعله, وتفاعله, فما يقول كل واحد عن عقله, في هذا الخضم المتلاطم الذي لن يجعل بساط الحياة المطمئنة مستقراً تحت قدميْ الإنسان المعاصر, دون أن ينطلق من نسيج مكوّنات هذا العقل فيه..؟!