د. حسن بن فهد الهويمل
لست داعياً إلى الإغماض في كل شيء، ولا محرضاً على التخلي عن الأفضل.
ولست متخوفاً من الاختلاف بضوابطه. والمساءلة بشروطها. والنقد البناء بمناهجه.
لا أحد عندي فوق النقد، والمساءلة. ولا أحد يملك العصمة. ولكني أشهد بما علمت، وأعرف الفضل لذويه.
كلنا خطاؤون. ولسنا جميعاً سيئين، فينا الصالحون، والمصلحون، وفينا دون ذلك. والخيرية باقية. فلنعززها بحسن النوايا، وسلامة المقاصد، والتعاون على البر، والتقوى.
خياراتنا حين تكون متفاوتة، لا يعني ذلك أننا غير قابلين للتعاون، والتعاذر، والتعايش.
كل مجتمع لا يخلو من أطياف، ولكل طيف رؤيته، وتحفظاته، وخوفه من الثبات، أو التغيير.
وإذ تؤدي كل الطرق إلى المراد، فإن الأفضلية لقصد السبيل.
ما نرى، وما نسمع في عالمنا العربي لا يرقى إلى مستويات الحجاج، والجدل، والتجاذبات الحضارية.
إنه مراء ظاهر، وباطن، وألدُّ الخصام، وتنازع يؤزه الأشرار، وآراء متعنتة، تمارس الفوقية، واحتكار الحقيقة، وتجاهل الواقع، وتسفيه الأحلام، والرهانات الطائشة.
- نريد علماء يعون فقه الأحكام: القطعية، والاحتمالية. وفقه الواقع: حكمياً، وسياسياً، ومجتمعياً. وفقه إنزال الحكم على الواقعة، وفقه التمكين، والأولويات.
- نريد مفكرين عميقي المعرفة، شموليي الرؤية، وإعلاميين غير مسفين، ولا مهرجين، ونخب ثقافية، واعية، يدركون واقعهم، وإمكانياتهم، وموقعهم في السياق العالمي، قبل إدراك الأحكام المتمثلة بـ:- [هذا حلال، وهذا حرام].
- نريد وعياً يمكننا من البراعة في المواءمة بين الحكم، والواقعة، وفهم المقاصد الإسلامية.
- نريد أمة تدرك أنها في زمن القبض على الجمر. زمن الغرباء. زمن العض على جذوع الشجر. وتفضيل العزلة وراء غنيمات يندس معها المبتلى في الشعاب، والآكام، وبطون الأودية.
ذلكم هو زمننا، وتلكم هي إمكانياتنا.
لم تعد أمتنا تملك قرارها، ولا صيانة مثمناتها. ونخبها حين تداري، وتتقي من أعدائها الألداء الأقوياء تقاة، وحين تجنح إلى السلام، وتذهب إلى القوى المتغطرسة في عقر دارها، لتبدي حسن النوايا، وسلامة المقاصد، وإمكانية التعايش، والتعاذر، والتفاعل، فإنما تحاول الخلوص من الهلكة. فهي تعيش مرحلة الإكراه. وليس هذا من باب الموالاة، ولا المحبة، المخلة بالعقيدة.
إنه التحرف، والتحيز، حتى يأذن الله بالنصر، والتمكين. ومن أراد بفعله غير ذلك فهو الموالي. أو المجازف.
الإسلام لا يكون صالحاً لكل زمان، ومكان حتى نعرف مقاصده، لا حرفية نصه. فقهاء الأحكام حين يفقدون ما سواه من أنواع الفقه تكون الإشكاليات.
لقد خلط العلمانيون، والمستغربون، والإسلاميون الحزبيون المتطرفون الأوراق، وربكوا المسيرة، ومكنوا للماكرين. وتركوا الحجة، ونكبوا عن طريق المحجة. {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.
ما نحن فيه لم يكن من صنع أيدينا. إنه ناتج تراكمات خلفتها لنا عصور الضعف، والتشرذم، والدويلات المتناحرة التي أضاعت [الأندلس]، وأسقطت [الخلافة].
والجهلة المتعالمون، والمغفلون الورعون، والمتخوفون المخذِّلون يمهدون لمزيد من الترديات، بالممانعة المصطنعة، والتأويلات الفاسدة، والتحفظات العازلة.
مسؤوليتنا في المحافظة على رسيس الإمكانيات، وإيقاف التدهور، والتمزق. لا مجال للتعاظم، ولا لخطابات الغطرسة، والمثاليات الفارغة من كل حكمة، وُرْؤيَةٍ، وَرَوِيَّةٍ.
الزمن ليس زمن مواجهة، ولا زمن تحدٍ، ولا زمن اعتزال. إنه زمن التحرف، والتحيز والدفع بالتي هي أحسن.
لقد جنت خطابات التشنج، والعنتريات، وغياب الفقه بأنواعه. على أمتنا، وفوتت عليها مراجعة النفس.
إن خطاب الأقوى يختلف عن خطاب الأضعف. أتريدون خطاب [الرشيد] للسحابة التي مرت، ولم تمطر:- [أمطري حيثُ شئتِ فإنَّ خراجكِ عائدٌ إليّ]. أم تريدون استجابة [المعتصم] لاستغاثة المرأة المسلمة في [عمورية].
أم تريدون موقف [أبي بكر] من الردة. وكما قيل:- [ردةٌ ولا أبو بكر لها]. إنها أحلام تجر إلى مزيد من الويلات.
نريد موقف الرسول صلى الله عليه وسلم في [صلح الحديبية].
أو موقف [ابن الوليد] في [غزوة مؤته]، حيث أظهر مهارته في تخليص المسلمين مما لقوه في تلك المعركة.
لقد فكر بمكيدة تلقي الرعب في قلوب الأعداء، وتخلص المسلمين من هزيمة ساحقة. بحيث ركن إلى [الحرب النفسية]، والتمويه، وتراجع تحت غطاء المخادعة محافظاً على نظام الجيش.
إنه انحياز، وليس فراراً. وتحرف حفظ الأنفس، وصان الكرامة.
إن واقع الأمة يحتاج إلى سياسة السكينة، والبصر، والبصيرة، والالتفاف، ولين الجانب مع الأعداء، والتمكن من تحييدهم، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.
لا مكان للحِدَّة، والحَدِّية، وواحدية الخيار. ولا مكان للاعتزال، والاستغناء. لا بد من فهم الواقع، وإدراك اللعب، ومنع التدهور.
لا مجال لإعلان [الخلافة]، ولا مكان للولاء [الأممي]. وإن كانت تلك رغبة كل مسلم.
القطرية، والوطنية هي الحل المؤقت، الذي اجترحه، وفرضه المقصرون من أسلافنا، ونحن الذين تَحَمَّلْنا جرائره.
وحين تستقر الشعوب في أوطانها، ويأمن المسلم على نفسه، وعرضه، وماله، وعقيدته، تطرح كل الخيارات المضمرة.
دعونا نؤجل طموحاتنا الطوباوية، حتى نكون بمستواها: قدرة، واستغناء، وندية.
وهل عاقل يرفض [الخلافة الراشدة]، و[الولاء الأممي]، و[الجامعة الإسلامية]، ولكن {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}، {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}.
فما في وسعنا إلا حماية الوطن، ومثمناته، ومقدساته. وكيف تتأتى الوحدة بكل أشكالها، وكل إقليم متمسك بطائفيته، وحزبيته. مع فقد التجانس: اجتماعياً، وثقافياً، واقتصادياً.
لقد مزقنا إقليمياً، وثقافياً، وطائفياً. ولم يعد هناك أمل بالتقارب ما لم نغير ما بأنفسنا.
أمتنا مخدوعة بخطابات الطوباويين، والحالمين، والعملاء، وعشاق الأضواء، والزعامات، وأنصاف المتعلمين.
وما من عاقل واعٍ متابع لمسيرة التاريخ إلا ولديه يقينيات تتمثل بأن أزمة أمتنا أزمة حكام، وأزمة وعي. وَلَّدَت أزمات أخرى تتضاعف مع الزمن. وهيأت حواضن لمزيد من المكائد، واللعب.
[المملكة العربية السعودية] بمؤسساتها السياسية، والإسلامية تمارس الدفع بالتي هي أحسن. والرحلات المكوكية التي يمارسها رؤساء المنظمات الإسلامية، والشخصيات الإسلامية محاولة جادة لإرجاء السقوط، وأخذ الأنفاس، والتحرف لإسلوب جديد يحول دون المواجهة. وليست خنوعاً، ولا استسلاماً، ولا موالاة، فليتق اللهَ الحالمون.