د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تفرق النظم والقوانين بين الاعتداء الجنسي والتحرش الجنسي، فوقائع الاعتداء الجنسي جرائم واضحة تكون لها عادة آثار واضحة تسهّل إثبات حدوثها، أما التحرش الجنسي فيعرف عادة بالتحرك تجاه الضحية بالإيحاء أو الإيماء او السلوك بطلب إقامة علاقة جنسية معه دون رغبة منه. وتم التأكيد في السنوات الأخيرة على أن اشتراط أي سلوك مرتبط بالجنس، أو الإيحاء بمثل ذلك لطالب وظيفة أو ترقية أو فرصة علمية من أعمال التحرش الجنسي التي يعاقب عليها القانون. والتحرش ليس مرتبطا بتحرش الرجل بالمرأة كما يعتقد، بل يشمل أنواعا أخرى من التحرش كتحرش المرأة بالرجل، أو المرأة بالمرأة أو حتى الرجل بالرجل.
ومما يؤسف له أن معظم ضحايا الاعتداءات الجنسية والتحرش الجنسي هم من الأطفال الذين يسهل استدراجهم لذلك. ويحدث عادة ممن هم في محيطهم من أقارب أو أصدقاء أو جيران أو عاملين في المنزل ولانشغال الأسرة عن أطفالها إما للعمل أو غير ذلك، أو ترك تربيتهم للخدم. وقد اكتشف علماء النفس الجنائي أن الاعتداء الجنسي أو التحرش الجنسي يترك آثاراً مدمرةً على الضحية تبقى معه طيلة حياته وتتعمق في نفسيته مع تقدم عمره. وقد ربط الاعتداء والعنف الأسري الجنسي المبكرين بأكثر جرائم العنف قسوة ومأساوية، فضحايا العنف الأسري والإساءة الجنسية ينشأون برغبة دفينة في الانتقام.
وبما أن الأمور المتعلقة عادة بالجنس تعتبر من الأمور الحساسة جدًا اجتماعيًا والخاصة نفسيًا لأنها تحاط بجوانب العار والشرف فهي تضاعف ألم الضحية النفسي وتجعله يتألم وحيدًا لا يجرؤ على بحث ما حدث له مع الآخرين مهما كانوا قريبين منه. وهو أمر ينطبق على جميع المجتمعات ويتعقد بشكل أكبر في المجتمعات المغلقة والمحافظة. ولذلك يُشجّع الناس في المجتمعات الغربية على الكلام علنًا عن مآسيهم ويجري تثقيف المجتمع على أن ينظر لهم كضحايا تجب مساعدتهم وليس كأفراد فقدوا شرفهم أو سمعتهم فهم لا حول لهم ولا قوة فيما حصل لهم. وفي حال تم الإفصاح عن حوادث التحرش والاعتداء الجنسي يمكن فقط حينئذٍ ملاحقة الجناة الذين يبقون عادة طلقاء بسبب تكتم الضحايا.
وظهرت في الإعلام مؤخرًا قضية اعتداءات جنسية متكررة من أحد أكبر مالكي استديوهات الإنتاج السينمائي في هوليوود هارفي وأينشتين، ويقال إنه مارس التحرش والاغتصاب لعقود من الزمن ومعظم ضحاياه نجمات سينمائيات كن في مقتبل العمر قام بابتزازهن والإساءة لهن مقابل منحهن أدوارا في الأفلام. ورغم عددهن الكبير، وانتشار السمعة السيئة لهذا المنتج، ورغم أنه سبق وأن تمت تسوية عدة قضايا اغتصاب ارتكبها خارج المحاكم، إلا أنهن لم يجرؤن على الإفصاح عما حصل لهن إلا مؤخرًا، وفضلن الصمت والستر طيلة هذه السنين.
وهناك توجه عالمي لتشديد قوانين التحرش في كافة أنحاء المعمورة، إلا أن الأمر شائك ومعقد. وقد عزز إفصاح كثير من الضحايا رجالاً ونساءً عما حصل لهم من تحرش على هذا التوجه، ومنها تحرشات وإساءات جنسية مريعة تمت في أماكن مستبعدة تمامًا كأديرة بعض الكنائس وبقيت طي الكتمان لزمن طويل. ولدى المملكة مشروع نظام قادم لتجريم هذه الممارسات المسيئة الخطرة.
لكن التوجه لتجريم التحرش يصطدم بكثير من العقبات القانونية، من أولها تعريف مصلح « التحرش الجنسي» ذاته وتحديد ما ينطوي تحته وما يخرج عن نطاقه. وتعريف المصلحات مشكلة أبدية في صياغة الأنظمة القانونية إذ كيف تعرّف الظاهرة التي يؤطرها المصطلح بشكل دقيق؟ وهل يُتبع في ذلك تعريف قانوني يختص به القانونيون والمشرعون المسؤولون عن الصياغة القانونية، أو يترك ذلك لما يتعارف عليه الناس على أنه جزء من هذه الظاهرة؟ فكيف في نهاية الأمر يحاكم مواطن على خطأ عرفّه القانونيون وهو لا علم له به ولم يطلع عليه، أو حتى لم يفهمه؟ وماذا عن وقائع جديدة يعتبرها الناس تحرشًا ولم يشملها التعريف القانوني؟ ثم كيف يتم التفريق بين بعض حالات الموافقة، أو الموافقة الضمنية، أو الموافقة الكيدية أو الاستدراجية وبين حالات الاغتصاب الفعلي؟ وكيف نجزم بنية من يذهب/أو تذهب راضية في مكان مزوي مع الجاني ويتعرض لاعتداء؟ وماذا عن الحالات التي يكون فيها الطرفين في وضع غير طبيعي؟ والدول أيضًا تختلف في تحديد السن القانوني لعمر الرشد. ويتدارس القانونيون قضية محاولة تجريد الرئيس الأمريكي بيل كلينتون من منصبه بعد اتهامه بالتحرش بمونيكا لوينسكي، وهي قضية شهيرة، حيث تمت تبرئته بناء على اختلاف حول تعريف مصطلح «علاقة جنسية».