عبده الأسمري
عندما يذكر اسمه يستذكر الملايين من كل أصقاع العالم صوته الشجي وتلاوته القرآنية المذهلة.. إمام وفقيه وقارئ للقرآن وأكاديمي وشيخ وقور وعالم جليل، إنه إمام الحرم المكي الشيخ علي عبد الله جابر - رحمه الله -، أحد أشهر قراء القرآن وأمهر الأئمة في العالم الإسلامي.
بوجه دائري مألوف تتحفه علامات الزهد وتحفه سمات الود والسكينة، وعينان نضاختان تمتلآن دمعاً حين التلاوات وتسكنان حين الإنصات، وملامح حجازية أصيلة تعلوها مطامح نبيلة وصوت مسجوع بالإتقان مجموع بفصاحة اللسان، ولحن نادر ينطلق من حنجرة فريدة تتلو آيات الله آناء الليل وأطراف النهار، تملأ تلاوة الشيخ علي بن جابر الآفاق فتطرب لها الآذان وتخشع لها الأفئدة وتستكين بها الأرواح، في منظومة صوت يبعث على الهجوع والخضوع والخشوع لا يزال حاضراً في القلوب مستحضراً في العقول.. واتجاه مفضل للباحثين عن سكنى التلاوة وحسنى الاستماع وفضيلة التدبر.
في جدة وُلد علي بن جابر خشياً تقياً منذ صغره مرتاداً للمساجد رفيقاً لحلقات الذِّكر، مترافقاً مع صحبة صالحة وأبوين غرسا في قلبه عشق القرآن وسخرا وقته لخدمة الإسلام، حيث كان مستعصماً لنصح أبوّة ودعوات أمومة رافقته طيلة حياته، فبعد وفاة والده وهو في الـ11 من عمره، حرص على إتمام حلمه بأن يراه عالماً شرعياً، فظل ملازماً لوالدته عطوفاً بها قريباً منها في كل تفاصيل حياتها.. كان شغوفاً بالاستماع إلى إذاعة القرآن الكريم مستلهماً من لحن عبد الباسط عبد الصمد اليقين، ومن نبرة عبد الله خياط العبرة، ومن إبداع زكي داغستاني الاعتبار ومن سكون محمد أيوب فنون الأداء فنمت في ذاكرته «جمل وعبارات واعتبارات من الإلحان التي رسمها لتمثل مشهده الخاص في التلاوة وروحه الجلية في الأداء» .
انتقل الشيخ علي - رحمه الله - مع أسرته إلى المدينة المنورة التحق بدار الحديث، وحفظ القرآن الكريم في جامع الأميرة منيرة ثم معهد القرآن الكريم، ليكمل بعد ذلك الدراسة الثانوية في المعهد الثانوي، ويتجه بعدها إلى كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية ويتخرج منها عام 95 - 1396هـ بدرجة امتياز، ليغادر إثر ذلك إلى الرياض لإكمال دراسة الماجستير من المعهد العالي للقضاء الذي حصل عليه بتقدير امتياز في أطروحته (فقه عبد الله بن عمر وأثره في مدرسة المدينة)، ثم الدكتوراه بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى في أطروحته (فقه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق موازناً بفقه أشهر المجتهدين).
تعيّن إماماً للحرم المكي من الفترة من 1401هـ - 1409هـ، تخللها فترة سفر إلى كندا، ترك الإمامة رسمياً في عام 1402هـ، وعاد ليكون مكلفاً للإمامة عام 1406هـ حتى 1409هـ، إثر مرض ألمّ به منذ فترة طويلة، ومدرساً في الفقه المقارن بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز بجدة. وعمل بعد حصوله على الماجستير فترة محاضراً في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ثم عاد إلى جدة حيث مسكنه.. ارتبط سكان حيه بصوته كثيراً فكانوا يطلبون منه إمامة الناس بالتراويح في مسجد بقشان بجدة هـ، وبعدها بعدة سنوات وبسبب المرض كان يصلي نصف الصلاة ويكمل الصلاة معه شاب آخر، ثم لم يَعُد الشيخ يؤم بالناس التراويح لأن الوقوف يثقل عليه. مراحل متعددة قضاها الشيخ أكاديمياً بارعاً وفقيها مبدعاً وقارئاً ممتعا عانقت شهرته الآفاق، وانطلقت من أعماق قلوب شغفت بصوته.
واعتذر في مرحلة من حياته عن منصب القضاء تورعاً متجهاً للعمل الأكاديمي.
كان الشيخ ورعاً تقياً مثالاً للزهد، فكان شديد التواضع هادئاً يغلب على شخصيته خجل العلماء ووجل الزاهدين وبراءة التقوى وكفاءة العلم، فظل ملازماً للشيوخ منذ صغره مستلهماً من دروس معلمه الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - معاني الفقه ومعالم التفقه، ومن الشيخ محمد المختار الشنقيطي مختارات العلم واختيارات المعرفة.
عمل إماماً في قصر الملك خالد - رحمه الله - الذي عيّنه إماماً للمسجد الحرام، وأم المصلين في عدّة جوامع بالمدينة المنورة وجدة ومكة، قبل أن ينال منصب الإمامة رسمياً بالحرم المكي.. سنوات قضاها الشيخ بين مكة والمدينة طالباً للعلم مثالاً للبر بوالدته إماماً للملايين من المسلمين، أنموذجاً فاخراً للتلاوة، ومعلماً بشرياً للعالم الشرعي المتمسك بأصول الدين، الموظف لإعجاز القرآن في حياته ووسط تعاملاته.
توفي في شهر ذي القعدة عام 1426هـ بعد معاناة مع المرض وصلِّي عليه في المسجد الحرام وووري جثمانه في مقبرة الشرائع بمكة، مات مبتسماً رغم ويلات المرض، وحملت تفاصيل جنازته ملامح التقوى وآثار الحسنى ووقائع حسن الخاتمة، تماماً كما كان رصيده الحافل بحب الناس الممتلئ بالسيرة العطرة الممطرة بالفضل والنُّبل.