د.عبد الرحمن الحبيب
إعلان الرئيس الأمريكي سحب الإقرار بالتزام إيران بالاتفاق النووي، يمثل تغييراً كبيراً في السياسة الأمريكية، ويدشن لمرحلة جديدة في تعامل أمريكا مع النظام الإيراني، سيتبعه تغير في مستقبل العلاقات الدولية مع إيران. فما هي الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه إيران؟
بداية ينبغي التنويه إلى أنّ عدم التصديق على التزام إيران بالاتفاق النووي لا يعني انسحاب أمريكا بشكل فوري من الاتفاق، لكنه سيمر بآلية قانونية معقدة عبر مناورات مع الكونجرس الأمريكي من جهة وحلفاء أمريكا الغربيين من جهة أخرى. فترامب أعطى الكونجرس مهلة ستين يوماً لتعديل الاتفاق وإلاّ ربما يعلن انسحاب إدارته من الاتفاق.
لماذا رفض ترامب التصديق على التزام إيران؟ لعدّة أسباب .. أولها الخلل الواضح في الاتفاق الذي يمنع إيران من صنع قنبلة نووية حتى 2025. واعتبر تيلرسون أنّ «هذا الأمر لا يؤدي سوى إلى إرجاء المشكلة إلى وقت لاحق»؛ بينما واشنطن تطالب بوضع القيود بشكل دائم. أما الأسباب الأخرى فهي أنّ آليات المراقبة والتفتيش غير كافية، والاتفاق بحد ذاته فضفاض، وبه ثغرات إذ لم يتطرق للبرنامج البالستي الإيراني، فإيران مستمرة بتجاربها الباليستية ويمكنها تطوير حمولة نووية تُشير الدلائل إلى أنها بمساعدة كوريا الشمالية.
المسألة الأهم، أنّ الاتفاق انحصر بمسائل تقنية للتسليح النووي، متجاهلاً عدوانية إيران وتوسعها الإقليمي المزعزع لاستقرار المنطقة. لذا نوّه ترامب في خطابه إلى أنه سيأخذ نهجاً أكثر صرامة مع إيران بسبب دعمها المالي والعسكري لجماعات إرهابية ومتطرفة في الشرق الأوسط، فضلاً عن برامجها النووية والبالستية. وأضاف ترامب أنه سيمنح وزارة الخزانة الأمريكية سلطات واسعة لفرض عقوبات اقتصادية على الحرس الثوري الإيراني باعتباره منظمة إرهابية.
ما هو مستقبل هذه العقوبات؟ ستفرض عقوبات جديدة، وبالأصل العقوبات الأمريكية عليها لا زالت قائمة باستثناء عناصر محدودة كالطيران المدني والمنتجات الزراعية؛ والقانون الأمريكي يسمح للرئيس وللكونجرس بإعادة فرض عقوبات اقتصادية على إيران دون أن يخل بالالتزام الأمريكي بالاتفاق النووي. وحسب مستشاري الإدارة الأمريكية فلا البيت الأبيض ولا الكونجرس سيتخذان أية خطوة لتخفيف العقوبات على إيران، بل إنّ الاتفاق النووي مرجح للتغيير في ظل الوضع الجديد. وقبل ذلك، نشر السفير الأمريكي السابق لدى الأمم المتحدة جون بولتون خطّة للانسحاب من الاتفاق النووي واعتماد سياسة ضغط على إيران قد تصل لحد تغيير النظام، مما يعني تغييراً جذرياً للإستراتيجية الأمريكية السابقة.
كانت الاستراتيجية الأمريكية للإدارة السابقة تعتمد سياسة الاحتواء، مما حدا بها لتوقيع الاتفاقية وتجاهلت أعمال إيران العدوانية بالمنطقة؟ يقول المسؤولون السابقون بالإدارة الأمريكية إنّ ذلك يرجع استراتيجياً لهدف وقف برنامج التسلح النووي الإيراني، أما السلوك العدواني لإيران فيمكن التعامل معه واحتواؤه في سياقات أخرى. لكن الذي حدث هو العكس، وحصل ما حذّرت منه السعودية بتوسع التهديد الإيراني نتيجة السياسة الدولية المتخاذلة تجاه إيران. لقد ثبت للإدارة الأمريكية أنّ استخدام الاتفاق النووي كمحاولة احتواء لإيران كان بلا جدوى في ردع سلوكها العدواني، لأنها لم تنتهكه بشكل مكشوف، لكنها راوغت في تطبيقه، كما قالت مراراً الإدارة الأمريكية بأنّ إيران تنتهك روح الاتفاق، فضلاً عن زيادة سلوكها العدواني.
الآن، ما هي الاستراتيجية الأمريكية الجديدة؟ قبل خطاب ترامب بساعات كشف البيت الأبيض عن ملامح استراتيجية الرئيس الأميركي. يمكنني تلخيصها بثلاثة محاور عدا محور الاتفاق النووي. الأول فرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على إيران وخاصة على الحرس الثوري الذي له اليد الطولى بإيران. ذلك سيمثل ضرراً اقتصادياً بالغاً لأنّ الحرس الثوري متغلغل في كافة المؤسسات المالية في الدولة. وسيزداد تأثير الضرر لأنّ الشركات الأوربية ستخشى التعامل مع الحرس الثوري مما يعرّض أعمالها مع أمريكا للخطر.
الثاني: ستعمل واشنطن على مواجهة التهديدات الموجهة لحلفائها في المنطقة، التي تشمل الصواريخ البالستية وغيرها. بعض مستشاري الإدارة الأمريكية يطرحون إمكانية مواجهة إيران ووكلائها بالمنطقة عبر القوة الأمريكية المباشرة أو شركائها بالمنطقة. الثالث هو حشد مكثف للدبلوماسية الأمريكية توضح دعم إيران للإرهاب وأنّ الحرس الثوري منظمة إرهابية تنتهك حقوق الإنسان وتزعزع استقرار المنطقة وتستنزف ثروات الشعب الإيراني. وهنا، ستعيد واشنطن تنشيط تحالفاتها التقليدية مع شركائها الإقليميين، وإنشاء توازن أكثر استقراراً للقوى في المنطقة.
في واشنطن، يرى بعض مؤيدي «سحب الإقرار» أنه طريقة للضغط على طهران، لكن أيضاً ضغط على الأوروبيين المتمسكين بالاتفاق الإيراني، من أجل إعادة التفاوض أو تعديل نصّ الاتفاق النووي. الدول الأوربية على عجلة من أمرها لعقد صفقات تجارية تحتاجها اقتصادياتها المترنحة، وهمهم الاستراتيجي تجاه إيران يتمثل بوقف تسلحها النووي؛ كي لا تتحول دولة نووية مثل كوريا الشمالية. لكن أمريكا ستنبه حلفاءها الأوروبيين لمحاذيرهم الاستراتيجية بأنّ إيران تخترق روح الاتفاق النووي مثل اختبارات الصواريخ البالستية التي يمكنها لاحقاً حمل رؤوس نووية..
الخلاصة أنّ هذه الاستراتيجية ستركز على أنشطة طهران غير النووية، ولاسيما ما يتعلق بالحرس الثوري الذي تعتبره واشنطن منظمة إرهابية، مع الحزم في تطبيق الاتفاق النووي أو تعديله .. فترامب وصف هذا الاتفاق بأنه أسوأ اتفاق وقّعته أمريكا في تاريخها.