مُدخل:
الرواية قادرة على طرح المشكلات الإنسانية، والأزمات، لكن لا تستطيع تقديم حلول لها، من هذا المنطلق أشعر برغبة شديدة في تبني فكرة القراءة من وجهة نظر المتلقي (الذي أمثله هنا) بطريقة لا تبحث عن المشاكل لتحلها، بل تقصد مشاركة الروائي، في تجربته الجمالية والإنسانية لأخرج بعد ذلك بقيمة عليا أستطيع أن أسميها (متعة القراءة).
بين يدي رواية «المشطور» للروائي والقاص العراقي ضياء جبيلي، موضوعها، البحث عن الهوية، يقدمها جبيلي بواسطة رجل تعرض للشطر بمنشار كهربائي.
من هو المشطور؟
ما هذه الطرائق غير الشرعية؟
ربما أنطلق بوعي من خلال هذه الأسئلة التي تبادرت لذهني منذ العنوان، لمحاولة فهم المقصد، باعتبار الرواية وثيقة حقيقية عن الواقع، بعيدًا عمن يجرح هذه القيمة بوصفها للتسلية وإزجاء الأوقات، قولي إنها تمثل الواقع أي أنها إيمان المرء (الروائي) بواقعه، إخلاصه الذي يشبعه بالكتابة، ومن ثم ينقله بطريقته إلى المتلقي، لا الواقع بشكله الذي نراه الآن، ومحاولتنا الركيكة لنقله بشكله الصرف لنصوصنا اليومية.
الشخصية الرئيسة المشطور، الذي كان رجلاً مثقفًا كما تصفه الرواية، لا اسم له كما اختار له جبيلي، كي يوجه أنظارنا نحو حياته بعد الشطر؛ الذي أبدل حياته، إلى النقيض، ربما لم أعرف الكثير عن حياته قبل ذلك، إلا أنني متأكدة من أنها لا تخلو من المتاعب ، لكن مقارنتها بمعاناة الشطر والتشتت وضياع الهوية الذي صار عليه بعد تلك العملية أصعب وأفظع.
لا اسم له قبل الشطر، الجميع على هذه الأرض لهم أسماء، الشمس تسمى شمسًا، القمر يطلق عليه القمر، الوردة وردة، لكن رجل بالغ لا اسم له، لا يمكن أن يتخيله عقل؛ إلا إذا كان فعلاً مقصودًا، فما أهمية الأسماء إذا سقطتَ في وحل؟ ما قيمة الاسم وأنت قد تُقتل بسببه، ففي بلد مثل العراق، مسرح الرواية قد يحدث هذا، لا أقول أن المشطور بلا اسم،- لكن الروائي قام بتغييبه برأيي لسبب واحد، أن حياته بعد الشطر أهم من حياته السابقة، ربما كان يرى ذلك، بجانب نزوعه للتأكيد على عراقيته، يوم أن كان تحت طائلة التعذيب كان يُسأل عن هويته فيجيب بأنه عراقي
..... لكنني تغابيت، وأصررت على قولي وكررته مرارًا:
«أنا... عراقي»
كيف سأنظر للشخصية الرئيسة؛ مع شطرها؟
تُعامل الشخصية الرئيسة كما لو كانت واحدة، و باسم واحد ميزوبوتاميا، لأن لو رجعنا لهذه الشخصية قبل الشطر لحصلنا على شخص واحد، ولو نظرت إليه بعد الشطر (مع استحالة بقاء الرجل حيًا، لكنه الخيال) لوجدته واحدًا أيضًا، إذن لن يمنعني هذا الشطر من معاملة الشخصية الرئيسة على أنها شخصية واحدة، ربما مكمن الاختلاف في الأفكار والأهواء الذي لم يظهر كثيرًا على هذه الشخصية.
ولأن هذه الشخصية لا تعمل وحدها في نسيج الرواية، ولا يمكننا تخيل شخصية واحدة يقع على عاتقها فعل كل شيء، مثل اليد الواحدة العاجزة عن التصفيق، أستطيع أن أطلق على الشخصية الأولى ميزوبوتاميا تلك اليد العاجزة، ومكمن عجزها في فكرة الشطر المؤلمة، بالإضافة – لو تخيلنا – أنها ستكون وحدها من تقوم بمهامها التنقلية بين الحدود.
إذن وكما هذه الشخصية هناك من يدفعها لمواصلة التقدم، أو كما يطلق عليه تدوروف علاقة المشاركة في تحديده لأنواع العلاقات التي تنمو بين شخصيات الرواية التي حددها بثلاثة أنواع، الرغبة، والمشاركة، والتواصل
ما يعنيني هنا في هذه القراءة علاقة المشاركة، هذا العنصر الفعال الذي فعّل دينامية الحركة ( الحدث ) الرئيس في الرواية ( التنقل ) من خلال شخصيات عدة ساعدت المشطور على اجتياز الحدود، ومن الملاحظ على هذه الشخصيات انقيادها للمشطور برغم معرفتها بخطورة الموقف، هنا في هذا الموضع كنت أطرح سؤالًا مهمًا؟
كيف ذلك؟
كيف تنصاع كل هذه الشخوص؟ مع أن هذا الانصياع مقبولاً بالنظر لخلفية هذه الشخوص الأخلاقية، فقد رضوا بإدخال نصفين مجهولين داخل الحدود، مع بضائعهم المهربة، هل توقف هذا التواطؤ عند هذا الحد؟
نعم، كان أحد المهربين قد ترك النصفين في العراء، لأنه خاف أن يُكشف، مما أخر تقدمهم نحو بغداد، هذه اللحظة التي قُطع فيها حبل المشاركة، ليعاود الرجوع في فصل آخر.
لئن كانت للشخصيات قرارها، وحركتها التي تشير لتطور الأحداث، لابد لمكان يحمل نبوءات هذا التطور، أو مكان يدشن أهمية حدث مهم، أو حتى عابر، ومن خلال استطلاعي لعدد من الأمكنة التي تزخر بها الرواية وجدت أن هناك مكانين ربما ينضويان تحت لواء المقابلة، أي ما يجعل الأحداث تصعد ثم تتخذ طريقها للأرض، مكانين بينهما روح المقابلة الجبل، وساحة سعد في البصرة.
المكان يخدم الأحداث، هناك من يتألم فيختار الهروب، وهناك على الطرف الآخر من يتألم ويلبث مكانه ،معاناة الإنسان كبيرة، كيف له أن يصمد إذا كان مكانه مدار معاناته، نعم، فليختر مكانًا آخر،وهذا ما فعلته «خوخي» الايزيدية عندما هربت من مكانها لتصعد الجبل، ففي اجتيازه نجاته، وذاك الرجل في ساحة سعد الذي يبيع كتبه مفترشًا الأرض هاربًا من الجوع والفقر.
أيهما الناجي؟
كلاهما نجا بطريقتهما، المكان كان الأداة التي يمتلكانها للهروب، هذان المكانان نموذجين من مجموعة فضاءات تزخر بهما الرواية، وشددت على ذكرها لأنهما تحملان شعورًا يأخذك إليه الهرب، للأعلى هذا الشعور يوازي القهر الذي يهوي بك للأسفل، وتتمخض هذه النظرة لهذين المكانين قيمة مكانية منعزلة، قيمة خاسرة، قيمة أستطيع أن أسميها (قيمة الانفصال عن الواقع) تعني أن تعيش في الظل بعيدًا عن الأمكنة التي من الممكن أن تهب الأمان لهذا الإنسان.
من يقصد بالمشطور، ينقلنا هذا الاسم لرواية الإيطالي كالفينو التي تحمل هذا العنوان، حيث تحكي الأخيرة عن شطر رجل إلى نصفين، توظيف هذا الجزء في المشطور العراقي ما هو إلا امتداد لذاك الهم الإنساني الذي نشعر به إزاء الفظائع المبتلى بها العالم.
لست بصدد المقارنة بين الروايتين لكن هذا الانقسام تم عن طريق طرف ثالث أكثر قتامة ورعبًا ودموية، يد الحرب التي شطرت الفيسكونت ، بطل كالفينو، وبطل جبيلي الذي صار ميزو و بوتاميا.
ما هي الطرائق غير الشرعية؟
بعد الموت ( الشطر ) أصبح النصفان في ورطة، لا يحملان هوية مما عقد مسألة وجودهما في الوطن، أصبحا غريبان، لا هوية لميت سلفا، لكنها الحكاية العجائبية التي أخذتنا في رحلة محفوفة بالمخاطر، كان النصفان على موعد مع الترحال، والغربة، من خلال ستة حدود تحيط بالعراق، يحكيان فيهما المشاهد التي تجري عليهما، هناك في البعيد حيث لا نرى كانوا مرآتنا، مرآة المتلقي الباحث عن ما تحت السطور، خلف الأبجدية، عن ما يشبع فضوله، وهو ما أجاده الكاتب من خلال سرده لقصص متنوعة عند كل حد، ينقلنا إلى عوالم التهريب، والدخول غير الشرعي، والنزوح للأقليات المستضعفة، وقصة حب غير مكتملة، ونضال النصفان في الاهتداء لمكتبة يجدون فيها كتاب «كالفينو / المشطور» ليجمعا نفسيهما من جديد
العثور على الرواية يمثل لهم العودة للأمل، للهوية، للوطن، لأن فيها خلاصهم الوحيد، الطريقة التي وصفها كالفينو لعوده الفيسكونت المشطور.
دخولهما على أمل العثور على الرواية في أي متجر للكتب، وخروجهما خاليي الوفاض، يمثل حالة الوطن المأخوذ من كل جهة بالهزيمة والأمل على حد سواء.
«حتى أنهما لم يلتفتا» جملة النهاية في رواية جبيلي، كانت تلخص هذا الهم الكبير، الذي يعذب الإنسان، المصير الذي تكبد النصفان فيه مسافة عمر ليفترقا، النتيجة التي باتت واضحة للانقسام الذي يضرب بقوة البلد، الحال الذي آل إليه المشطور كنموذج لأبناء الوطن الذين يعيشون أزمة الفرقة والابتعاد.
... ... ...
رواية المشطور، ضياء جبيلي.
مقولات السرد الأدبي، تزفيطان تودوروف، ضمن كتاب تحليل طرائق السرد الأدبي.
** **
- موضي العتيبي