تركي بن رشود الشثري
«لا يمكن إرواء الإدمان بموضوع هذا الإدمان»
(غاري زوكاف)
لا شيء يخرج اللبيب عن طوره، ويدفعه إلى الخروج عن سمته أشد من المغريات بأنواعها. ولكل إنسان ذوقه وميوله وهواه، كما أن له نصيبًا من الضعف والركون للدعة والبطالة. والنفوس أنواع، منها النفوس السامية، ومنها النفوس الهابطة. وما لم يراقب الإنسان نفسه ويحاسبها ويضبطها فإنها ستملك عليه أمره، وتهوي به في واد سحيق. وبالنسبة للمشتهيات فليست كلها محرمة، بل المحرم منها هو القليل، والمباح هو الكثير، ومع ذلك فهذا الكثير إذا أكثر منه الإنسان أشغله عن ما هو أعلى منه وأنفع له؛ وعليه فأنت مطالب بتقنين المرغوبات وتنظيمها بحيث لا تخرجك من فضيلة، ولا تقارب بك رذيلة، ولا تعتاض بها عن النمو الروحي والسمو العملي والرقي العقلي.. فكل إفراط في شهوات النفس يكون على حساب الروح والجد والعقل؛ لأن هذه المشتهيات ركبت في الأجسام كي تقودها للانسجام والتفاعل الحيوي مع الحياة والأحياء؛ فبلا هذه المشتهيات يكون الإنسان جثة متخشبة؛ فهي طاقة دافعة إذا وجهت الوجهة الصحيحة، وفرغت في القنوات النظيفة بتدفق موزون وتعاطٍ رشيد.. وبدون هذا التوازن تكون طاقة مدمرة، تهلك الحرث والنسل، وتحول الإنسان إلى بؤرة شهوات، لا ترتوي بل تصيح بصوت إدماني مرتجف «هل من مزيد». وبذلك نتبين أهمية الحدود والضوابط التي تقيد هذه الطاقة المتأججة.. ومهما بلغت هذه الاندفاعة فإن الإرادة الصلبة خير معين على كبحها. ومتى ما قوي الضغط وضعفت الإرادة حصل الطغيان والتجاوز.. فهل معنى ذلك النهاية؟ لا بالطبع. وهل معنى ذلك الفشل؟ لا بالطبع.. ولكنها الفرصة التي تقف من خلالها على نقاط القوة والضعف، وعلى ميول النفس ولحظات صولتها.. وهكذا فالنفس البشرية عليها مسحة من الغموض حتى على صاحبها، وهي تتجلى يوماً بعد يوم وحدثاً بعد حدث.. والمواقف هي الكفيلة بغربلة كل ذلك؛ فتتعرف على نفسك من خلال تلك المواطن، وتتحسس جهاز المراقبة الذاتية؛ فتصلح ما يقبل الإصلاح، وتستبدل ما يحتاج الاستبدال من بيئات أو علاقات أو أدوات أو مفاهيم أو ممارسات أو غير ذلك. إننا وفي طريق تهذيبنا لأنفسنا لا بد من أن نعي أمورًا، منها: أنه لا يمكن لأحد أن يضبط نفسه ويكبح جماحها حيال مراد من مراداتها إلا بمعرفة الآثار الوخيمة المترتبة على مواقعة كل ما تدعو له النفس، وكذلك الوقوف على الآثار الجميلة المرتبة على كف النفس عن ما تشتهي. وهل يكفي هذا بلا قوة روحية حاضرة؟ لا بد من أن نقرن هذه المعرفة برفعة روحية متينة، وذلك من خلال الإيداع في رصيد الروح بمزاولة كل ما يزكي النفس على كل حال وفي كل حين حتى إذا ما تعرضت النفس لضغط شهوي مع تراجع وضمور في الدفاعات يوفَّق الإنسان بأسباب الأعمال الزاكية السابقة، وبسبب الوعي بالآثار المترتبة على الأفعال المشينة؛ فتكون هذه الأعمال الخيِّرة بمنزلة الجدار الذي يعلو يوماً بعد يوم ليحول بينك وبين ما تهوى من الممارسات الضارة.
كتب فريدريك لونوار قطعة مهمة عن الحرية والاختيار والنواهي والرغائب معلقاً على انتصار الحداثة على الكنيسة بقوله: (حرية الاختيار والمعتقد أياً كانت أهميتها لا تكفي وحدها لجعلنا أحراراً تماماً؛ فثمة في الواقع شكل آخر من الاستلاب يتبدى في العبودية الداخلية «يعبر عنها فيما بعد بـعادات سيئة بتنا عبيداً لها» وأقصد بها انقيادنا واستسلامنا لأهوائنا ولرغباتنا الواعية واللاواعية ولروابطنا الداخلية المكبوتة. هذا الاستلاب يجعلنا أسرى ذواتنا. فلنتمهل في مراقبة أنفسنا). إلى أن يقول (فارتكاب خطيئة هو تضييع الهدف، أي سوء توجيه المرء رغبته، أو عدم إصابة الهدف. فهو حالما يسيء التصرف يقع الخطأ، ويبتعد عن الحقيقة). ويضيف (مع قضية الحرية تطرح قضية الاختيار. والحقيقة إننا نعيش في مجتمعات تتيح لنا العديد من الحالات الممكنة. الواقع أن حرية الاختيار الكبرى يمكنها أن تكون بشكل متناقض مدعاة فساد وتضييق شديد؛ فالعجز عن الاختيار يستلب الحرية، وفرط إمكان الاختيار يسحق الفرد... ولعل ضغوط الماضي لم تكن مبهجة لكنها كانت تمتاز بكونها مطمئنة، كانت تؤمن استقراراً ومعالم ثابتة للأفراد. أما الإمكانيات المتوافرة اليوم لنا وفي جميع مراحل حياتنا فيمكن بالعكس أن تصبح مصدر قلق... من الجائز أن تتكشف وفرة الإمكانات المتاحة عن خطر آخر هو خطر أن تسحقنا صعوبة الاختيار فنحبس ذواتنا في سجن الاكتئاب. واليوم يجد كثير من الشباب أنفسهم أمام مفارقة: فهم يتوقون إلى تحقيق أحلامهم والانفتاح على العالم، وهذه كلمة السر في عالمنا الحديث، لكنهم لا يتوصلون في الوقت عينه إلى معرفة ما يصلح لهم واكتشاف سواء السبيل، وتحقيق الخيارات الجيدة، كما لا يتوصلون إلى ضبط أنفسهم والتحلي كفاية بالفضيلة حتى ينجحوا في سلوك دروب مثيرة للحماس، لكنها كثيرة التطلبات. إنهم يصبون إلى كل شيء، ولا يتمكنون من تحقيق أي شيء، أو تحقيق ما لا قيمة له، وفجأة لا تعود لبعض هؤلاء الشبان رغبة في شيء ما، فيما يغرق آخرون في المخدرات أو الكحول فيهيمون على وجوههم، ويتعيشون ببطء، ويتعاطون قليلاً الموسيقى أو المعلوماتية من دون المضي قدماً حتى نهاية مخطط يتطلب منهم المثابرة في مساعيهم. إنهم يعانون الإحباط تماماً. وقد وفق الفيلسوف والمؤرخ آلان أهرنبرغ في بيان أن العصاب (أي الصراع النفسي بين رغباتنا والنواهي الأخلاقية) كان الداء المهيمن على المجتمعات الغربية على عهد فرويدحتى الستينيات من القرن الماضي، أما الآن فالأمر يختلف كلياً بعد أيار 1968م وتحرير الأخلاق؛ فالفرد لا يشكو اليوم من نواهٍ كثيرة بل من إمكانيات كثيرة، والمطالبة بحسن الأداء وباستقلال ذاتي شديد الوطأة عليه اليوم. هذا النوع من الانهيار العصبي الذي يصيب المراهقين والشبان البالغين أكثر فأكثر يشكل أحد أعراض العجز عن تحقيق الذات وملك زمام النفس).
وأسقط الكلمات آنفة الذكر على الانفتاح بفعل مواقع التواصل، وآثار ذلك على الشباب في الأمد البعيد؛ ليتجلى لك شيء من الواقع المرتقب.
إن الانجراف التام نحو ما تصبو إليه النفس يخلق فرداً نرجسياً ملتفاً على ذاته، ومتطلعاً لسد فاقته والتهافه الذي لا ينتهي، فهو مُخدَّر، ويدري أنه مُخدَّر. إنه يسيخ أكثر وأكثر في أوحال التردي وهو يدري، بل تصل به الحال لإعلان الإفلاس الخلقي والنفسي، وأنه لا يستطيع النزع والخلاص مما هو فيه بل قد يعلن أنه قد جرب وحاول وطرق جميع الأبواب للفكاك من عاداته الآسرة ولكن دون جدوى؛ وعليه فهو ملزم بإكمال الطريق إلى النهاية. وهذا - بلا شك - من قلة التوفيق، وإلا فلو بذل بعض الأسباب، ومنها أن يغير العادة السيئة، ويحل مكانها عادة حسنة بشكل متدرج، ولكن بلا استثناء، بمعنى أن من تعود إنفاق جميع ما في الجيب، ولا يقر له قرار حتى ينفق آخر ريال، فهو مطالب بادخار جزء ولو بسيط من مدخوله. وهذا الجزء لا يتنازل عنه مهما كلف الأمر. وكذلك من كان يعاني العادات الصحية الضارة من إدمان للوجبات السريعة وإهمال للرياضة فهو مطالب بالتوقف الفوري الجازم عن هذه الوجبات ومن يزينها له وأماكن بيعها، وأن يستبدلها بوجبات الفاكهة والخضار، ويزينها لتحلو في ناظريه، ويلتهمها بشراهة كما كان يصنع مع تلك، ولا يتنازل عن ممارسة الرياضة أربعة أيام في الأسبوع بواقع ساعة في اليوم بلا تردد ولا تكاسل ولا تبرير. يقول هوراس مان (العادة مثل الحبل، فنحن ننسج خيطاً كل يوم، وفي النهاية لا نستطيع قطعه). وعليه فلا بد من نسج الخيوط المتينة حول أيامنا وليالينا يوماً بعد يوم لنكوِّن عادات جيدة، فلا شيء يقارع العادات السيئة مثل العادات الجيدة. هناك مقولة حكيمة تشير لما يقارب هذا المعنى، ألا وهي (الحياة ليست مجرد شيء يحدث لك، ولكنها تتعلق بالاختيارات بشكل كلي. العبد له مشيئة، والله له مشيئة، ومشيئة العبد لا تخرج عن مشيئة الله». وكيفية تجاوبك مع كل موقف إذا كانت لديك عادة اتخاذ اختيارات سيئة باستمرار، فغالباً هناك كارثة ما ستحدث، فاختياراتك اليومية هي التي تحدد في نهاية المطاف ما إذا كنت ستعيش في رخاء أو فقر، ومع ذلك فالحياة لا تغلق أبداً باب الفرص بصورة كاملة). وبالفعل، فبعضهم يتعجب من عوادي الزمان ولا يعلم أنه من أحاط حياته بأسلاك كهربائية مكشوفة بفعل عاداته السيئة المتراكمة، فإذا جاء اليوم الذي يصعق فيه كهربائياً فإنه يتعجب، وفيم العجب؟! إذا كنت مدخناً شرهاً وأصبت بعد سنوات بتصلب شرايين - وهذا مثال بسيط - ففيم العجب؟! وعليه قس الخلافات ازوجية - الفصل من العمل - تكبيل الديون... إلخ. يؤكد أحد الحكماء أن الحياة ستعطيك نتائج ولا بد، سواء أعجبتك هذه النتائج أو لا. وبالفعل، فالواحد منا تتبدى له نتائج على طول الحياة، فصاحب العادات السيئة في انتظار النتائج غير المرغوب فيها، وصاحب العادات الحسنة في انتظار النتائج المرغوب فيها. ولله الأمر من قبل ومن بعد.