يوسف المحيميد
حين بدأت الكتابة في منتصف الثمانينات، كنت أرى أنها ترضي غروري، تحقق لي شهرة عابرة، مع أنني أخشى الأضواء وأتوارى عنها في العتمة، ومع ذلك، فقد حفزني نشر قصة قصيرة باسم مستعار في الملحق الثقافي بصحيفة الرياض، للنشر باسمي الحقيقي، والمباهاة أكثر بنشر صورتي مع النص، لكنني مع الوقت، ونشر الكتب تباعًا، اكتشفت أن الكنز الحقيقي، هو هذا الحقل من الكلمات، ومن الصور والمجاز والاستعارات الفنية التي أركبها كما يفعل طفل طائش مع ألعابه، وبما يجعلني أكثر توازنا وثباتا في مواجهة الخيبات، ها هو الكاتب اليوناني كازانتزاكي يتعلم في بداياته كيف يُشفى من الألم، ليكتب «الزنبقة والثعبان» حينما هجرته حبيبته، نحن جميعًا نكتب كي نضمِّد جراحنا، ونتصالح مع الوحشة والخراب.
علينا ألا ندَّعي بأننا سننقذ القارئ من كوارثه وهزائمه، وألا نبالغ بأننا سنغيّر العالم، نحن ببساطة أنانيون، نحاول إنقاذ ذواتنا الضالة في عالم فوضوي، عالم لا يكف عن الجنون، عالم عجزنا أن نوقفه عند حدِّه، وهو يتسلّل إلينا من أجهزة الهواتف الذكية أو الغبية، فيفتح أعيننا في الصباح، ويضعنا عراة أمام التفاهة والقبح، بعد أن كنَّا نحن من يتحكم بصباحاتنا، نطرزها بحنين فيروز، وقهوة سوداء، وهواء بارد غير مستعمل.
نحن بسطاء للغاية، نسير بقدمين من هشاشة، ونرى بقلوبنا، قد نقف تحت ظل عِبارة ما ليومين، وقد نركض فجأة في حقول اللغة كجياد. قد نراقص الكلمات في ضوء شمعة تنقضُ العتمة، وقد نهمز كراسي المقهى بسياط اللغة حتى تمشي كأشجار فقدت ذاكرتها يومًا.
نحن نكتب لأجلنا، نختبر أبصارنا، قلوبنا، وحواسنا، ننصت جيدًا كي نسمع ما لا يُسمع، نتأمل كثيرًا لنرى ما لا يُرى، نغمض فنتحسس بأناملنا الحياة كلها. نحن الريح، نكتب كي نرفع الورق المتساقط فوق العشب، نحن الأيدي التي تفتح الباب، التي تصافح، تعانق، تعزف، تنزف، تقتل، وترفع اللافتات في المظاهرات، نحن نقود الكائنات كلها، الشخوص كي يدلفوا من باب الشعر الموارب إلى حديقة الرواية الشاسعة. نحن شساعة الواقع، وفوضى المخيلة، نكتب لأجلنا نحن، ونصنع بالكلمات عالمًا موازيًا، له نكهة أخرى.
سأروي لكم جزءًا من البدايات، هنا حين جئت قبل عشرين عامًا، كنت نائمًا وقد تسللت نحوي جنيَّات دلمون، وغمسن قلمي في دموعهن الخضراء، حتى استيقظت صباحًا لأجدَ على طاولة الكوميدينو قصة قصيرة باسمي عنوانها «ترنيمة لفاصلة الأبيض»، كانت إحدى قصص مجموعتي الأولى «ظهيرة لا مشاة لها» عام 1989، وحدها اتخذت مكانًا للكتابة خارج الرياض، ووحدها كانت ترنيمة كالنزيف، كنت وقتها لا أكتب الفكرة، وإنما أكتب الحالة ذاتها، لا أعرف من أن يبدأ النص، ولا كيف تنساب العبارات الأولى. لا أعرف إلى أين يمضي النص، أسير خلف الكلمات دهِشًا ومأخوذًا. كما لو كنت أعرف وصية لوكليزيو في السرد: «دع الخيط يزيغ»، واستمرت اللحظة تصطادني قبل أن أذهب إليها، أكتب القصص بيد معروقة، وأصابع مرتعشة، بيد نجار لا يعرف أي هشاشة أو عقدة تواجهه، فجاءت مجموعتي الثانية «رجفة أثوابهم البيض»، قصصًا قصيرة كومضات، قادتني بعشق لا مثيل له إلى قصيدة النثر، كقارئ فحسب، لكن انعكاساتها جعلت نصوصي قصيرة جدًا، ومنحوتة بأناة، فلم أعرف ما كتبت، هل هي قصص قصيرة جدًا، أم قصائد، حتى التبس الأمر على الناشر اللبناني، دار الجديد، فعرَّفني كشاعر من السعودية في مجموعة «لا بدَّ أن أحدًا حرَّك الكراسة».
كنت وقتها قضيت نحو عشر سنوات، أسأل نفسي، ما الكتابة، ولماذا أكتب، ولمن؟ وأي نص أو حالة أو مشهد يلهمني، لماذا لا تقودني الفكرة ملتبسة بالحالة ذاتها، فكتبت قصصًا قصيرة مختلفة، محافظًا على غنيمتي المبكرة: اللغة الشعرية العالية، لكن ثمة فكرة نص قصصي، من بينها «مساء في أواخر فبراير» الذي أرسلته إلى مجلة كلمات، مستبعدًا أن يلتفت لهذا النص شاعر بقامة قاسم حداد، لكن المفاجأة أن النص نُشر، وظللت لأيام أزهو بين رفاقي بأنني نشرت في «كلمات» التي يرأس تحريرها الشاعر الكبير الذي نحبه ونهابه، فليس سهلاً أن نبتكر مفردات جديدة، وصورًا ومجازا مختلفاً كي نلفت انتباهه، فكان لي ذلك.
تلك القصة كانت ضمن مجموعة قصصية مختلفة في اللغة والأسلوب والبناء، اقتربت فيها من السرد كثيرًا، متخفِّفا من الشعر، ومدركاً في تلك المجموعة «أخي يفتِّش عن رامبو» أن النص الأدبي يحتمل الكثير من عناصر الجمال، فالموقف والمشهد والشخصية والمكان والزمان والوصف والإيحاء والسحر كلها بدأت تجذبني وتفتح لي آفاقاً جديدة.
من هنا، حيث الأفق المفتوح، المتعدد الدلالات، جاءت الرواية التي أرهقتني في البدايات، فكلما كتبت عدة صفحات توقفت، فهي ليست كالقصة القصيرة، تربطني بها علاقة عابرة وقصيرة، بل تحتاج إلى علاقة وعشرة طويلة تمتد إلى سنوات، وهذا ما لا أتقنه، فلت لنفسي سأؤثث غرفة لها السيدة الرواية، لا بد من فرا ش مشترك ومريح معها، فتحايلت عليها لأكتبها على ورق الجريدة الذي نستخدمه في كتابة المقالات والتقارير الصحفية، كي لا يتغير عليَّ المكان، فكتبت «لغط موتى» عن روائي يفشل في الكتابة كل مرة، بسبب الشخصيات التي تتنازع على امتلاك الصوت، فكل منها يود أن ينفرد بالحديث عن نفسه وحياته، حتى الموتى يتسلّلون إلى مكتبي، ويختطفون قلمي في ضوء عرف الشمعة المتأرجح، فيكتبون عن رحيلهم وأحلامهم، يتعالى لغطهم حتى يستيقظ طفليَّ، فأخبئ دفتر الجريدة تحت الطاولة، وأفتح النافدة للموتى، كي يطيرون بعيدًا إلى برزخهم.
في روايتي الثانية «فخاخ الرائحة» كنت على موعد مع العراء الإنساني واللعنة الخالدة، كنت على غير عادتي أكتب في صباحات أيلول المعتدلة، أتنقل بين تاريخ البدو وغدر الصحراء، بين النيل الأزرق والأبيض وميناء سواكن ومصوَّع على ساحل البحر الأحمر، بين الجلاَّبة والعبيد، بين السيدة واللقيط، كانت الرائحة هي الرابط بين هؤلاء الثلاثة المنبوذين. أتذكر حين أنهيت الرواية كنت كطائر اللقلق الذي نتف ريشه كله، وأصبح عاريًا، من سينشر روايتي هذه؟ لكن الظروف والحظ نقلها إلى لغات عدة، وناشرين متميزين، وأصبح اسمي يرتبط بها في الخارج كأول إصدار لي بلغات أخرى غير العربية.
اكتشفت آنذاك، تقريبا عام 2003، أن أفق الرواية مفتوح تماما، تستطيع أن تستوعب كل الآداب والفنون والتاريخ، هي ملحمة إنسانية مذهلة، فقررت أن أمعن في الطريق كي أصل إلى آخره، أو بمعنى أدق، كي أصل إلى آخري. كنت أتتبع جهود المرآة ومحاولاتها النضالية، وأستعيد ذاكرة روايتي الأولى «لغط موتى» حينما كانت الشخصيات تختطف آلة السرد من يدي كي تكتب معاناتها، فقلت لماذا لا أمنح المرأة هذه الأداة في عمل كامل، سأترك المرأة تكتب ما تريد، وأجلس على العرش أتابع ما يحدث، فكانت «القارورة» روايتي الثالثة، بكل ما فيها من تحديات ومغامرة في أن أستعير صوت المرأة لتحكي. حينما أنهت «منيرة الساهي» حكايتها، فكرتُ أن أخبئها داخل قارورة، وكتبتُ على لسان الجدة عبارة: «لا تضعي فيها حي حتى لا يموت، ضعي فيها الحكايات الميتة كي تعيش» وهي تنصح طفلتها «منيرة» بعدما وضعت داخل القارورة حشرة عجزت عن إخراجها منها، فاحتفظت بالقارورة وكتبت حكايتها السرِّية في أوراق داخل القارورة، كان المجاز فيها، أن كسر القارورة هو كشف الحكاية وحجاب المجتمع الوهمي.
كنت بحاجة إلى التقاط أنفاسي، والتحمم بماء الشعر، لذلك اتخذت من روايتي «نزهة الدلفين» شاعرًا كشخصية محورية، كي ألتقط اللغة العالية التي نأتي عنها لسنوات، كانت رواية بحدث بسيط للغاية، وربما مكررة، فتاة جميلة تحتار بين عاشقين، وتعبث بهما معًا.
هل تنتهي الحيل السردية؟ هل جماليات الرواية وعوالمها تنفد؟ وهل الحكايات تنضب في مجتمع لديه احتياطيات من الحكي تفوق احتياطياته من النفط؟ طبعًا لا، هكذا ذهبت بعيدًا في أعماق المجتمع في روايتي «الحمام لا يطير في بريدة»، عشرات الحكايات التي تحتاج إلى خيط سردي يقودها، تلك الحكايات التي أوقعت مجتمعًا كاملا في دائرة الوهم والشك والمرض، كنت أبحث عن تعويذة كي أحلِّق كالطير، أرى العالم من علو، فكانت الريشة التي علقت في ثوبي ذات ظهيرة هي أول الخيط الذي يقود إلى ما أريد، هكذا أخذت «فهد السفيلاوي» في رحلة طويلة، هي رحلة مجتمع يشبه جنديًا تورط في خندق، يكاد يختنق، وفي الوقت ذاته قالوا له إن خارج الخندق رائحة بارود وسموم ستقتلك!
كنت بحاجة إلى أن أضع شخصيتي في مواجهة مجتمع شرس وحاد، فإما أن يهرب منه أو يواجهه ويستبسل ضده، فاختار الأولى، وراح يتذكر أثناء رحلة قطار في بريطانيا حكايته المأساوية التي استعادها بسبب أغنية شعبية حزينة سمعها، وأعادته إلى الوراء. هكذا تقودنا الذكريات السوداء، وربما الحنين إلى عالم ساحر من السرد المتلاحق، واللاهث.
أحب الكتابة إلى درجة أن أفزَّ بغتة من نومي، وأدوِّن فكرة، عبارة، وأحيانا حُلمًا كي لا أنساه، وفي الصباح أبقى لوهلة محاولا فك عباراتي الهيروغليفية، كما لو كتبها رجل آخر لا أعرفه. أحب الكتابة إلى حد المرض... كما سقطتُ ذات ظهيرة بعدما أنهيت روايتي الأولى «لغط موتى»، وفقدت القدرة على التوازن والمشي. أحب الكتابة كقدر يصعب تغييره، أحب الكتابة كمرآة أقف أمامها، وكل مرة أرى على سطحها كائنًا لا يشبهني، له حياته ولي حياتي، له حكايته ولي صمتي. له فم شرس لا يتوقف عن الهذيان، ولي ذاكرة جمل. أحب الكتابة لأنها تعوضني، وتجعلني أعيش أكثر من حياة، فما أجملها من حيوات عديدة لكائن وحيد!
... ... ...
* كلمة ألقيت في أسرة الأدباء والكتّاب في البحرين، في حديث عن التجربة القصصية والروائية