د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
ترتبط قدرة المجتمعات على التطور بقدرتها على الإنتاج الذي لا يمكن أن يكون إلا من خلال البحوث العلمية الجادة، وهنا يعول المجتمع على المؤسسات الفكرية والعلمية والبحثية في أداء هذه المهمة الكبيرة، وتتوجه الأنظار إلى الجامعات ومراكز البحوث بوصفها أهم الجهات المنتجة للبحوث والدراسات المفيدة والمواكبة للمتغيرات السريعة في هذه الحياة.
والإشكالية أننا حين نتحدث عن مثل هذه الموضوعات نغفل أو نتجاهل بعض التفاصيل الأساسية التي يؤدي عدم الاهتمام بها إلى عدم قدرة هذه المؤسسات على أداء ما هو منوط بها، وفشلها في تقديم ما ينتظره الوطن والمجتمع منها في هذا السياق.
وأرى أن أول ما ينبغي الإشارة إليه هنا هو التأسيس القوي الجيد والمتين للباحث، وتأهيله تأهيلا علميا جادا يمكّنه من خوض غمار البحوث، ويمنحه القدرة على التعامل معها، مما يؤدي في النهاية إلى تقديم إنتاج بحثي متميز يعود على الوطن والمجتمع بالنفع الكبير.
غير أنَّ المتأمل في واقع البحوث العلمية يلحظ أنَّ أصحابها يفتقدون إلى أبسط الصفات المؤهلة، ولعل من أهم أسباب ذلك المشرف الأكاديمي الذي يعد من أبرز العوامل المؤثرة في قوة الطالب أو ضعفه، ومن ثم في جودة البحث أو رداءته، إذ إنه يصحب الباحث في أهم مراحل إنتاجه، ويفترض منه أن يعرف كل صغيرة وكبيرة في إنجاز الباحث، وطريقة تفكيره، ومدى استيعابه لكيفية اكتشاف المشكلات ومعالجتها، والقدرة على التوصل إلى النتائج المهمة المنتظرة من بحث يفترض أنه استحوذ من الطالب ومشرفه على جهد كبير، ووقت طويل، ومتابعة مستمرة.
والمصيبة حين يكون غياب الأمانة العلمية من أهم العيوب التي يقع فيها الباحث، فيتأسس على التساهل في سرقة الأفكار، والسطو على الموضوعات، والاستمراء في النسخ واللصق دون خوف من أحد، وكأنَّ الأمر طبيعي ليس فيه ما يعيب، فيتأسس الطالب على أنه لا ضير في هذه التصرفات، ولا إشكالية في مثل هذه الأساليب، وأنَّ طبيعة البحث العلمي تتيح له النقل متى شاء، وكيفما شاء، وممن شاء، وأنه لا يلزم الإشارة إلى مصادر المعلومات، فالعلم رحمٌ بين أهله، ما دام الغرض هو الإفادة فلا مشكلة في ذلك.
ومع بالغ الأسف ألحظ تقصيراً واضحاً في وظيفة المشرف تجاه هذه التصرفات، وتساهلاً غريباً في معالجته والتنبيه عليه، وأظن أنَّ السبب يرجع إلى أمور؛ منها أنَّ المشرف نفسه لا يعي خطورة هذا الأمر، ويعتقد أنه لا يستحق كل ذلك الحذر، وهذه مصيبة بحد ذاتها، ودليلٌ على أنَّ المشرف غير مؤهل من الأصل، وما بُني على باطل فهو باطلٌ وفاشلٌ وعارٌ على المؤسسة التي تخرَّج فيها، وهذه طامةٌ من الطوام التي لا يمكن أن تغتفر لمن سهَّل لهذا المشرف حصوله على درجته العلمية من البداية!
ومنها -وهو كثير- أنَّ المشرف مهملٌ مقصر، كسولٌ في أداء مهمته، ضعيف الخبرة، قليل الاطلاع على مصادر تخصصه، وهذه الإشكالية تعود بالدرجة الأولى إلى استيعاب المشرف لوظيفته وطبيعة المهمة المناطة به، إذ يعتقد بعضهم أنَّ إشرافه على الطالب تشبه وظيفة المصحح اللغوي الذي يقوّم الأخطاء الإملائية والنحوية، دون أن يدقق النظر في مصادره وكيفية إفادته منها، ودون أن يعرف أسلوب الطالب ويدرك مدى اختلافه وتفاوته، وهي واحدة من وظائف كثيرة ورئيسة يفترض أن يؤديها المشرف بإخلاص وأمانة، حتى لا ينشأ لنا جيل يستمرئ الاختلاس، ويتعود على السطو، ويرى أنَّ السرقة أمر طبيعي لا إشكال فيه!
وتتعاظم الإشكالية حين يكون هذا التساهل جماعيا، خاصة عندما تُعرض فكرةٌ فتكتشف اللجان الخاصة بمناقشتها أنَّ صاحبها ينقل بعض أقسامها من مصادر دون أن يشير إليها، وكأنَّ كل واحد منهم لا يريد أن يظهر بمظهر المتشدد، أو أن يتجنب إحراج المشرف، أو يرون أنَّ هذا التصرف يقع فيه كثيرون فلا حرج، أو يعتذرون بأن الباحث نسي توثيق معلوماته، وكلها مواقف مخجلة تشير إلى عدم الثقة بما يُقدِّمه طلابهم، ولا بما يُقدِّمونه لهم.
إنَّ على المشرف العلمي أن يكون على قدر الأمانة والمسؤولية، وأن يقوم بوظيفته على أكمل وجه، وأن يحرص على تنبيه طلابه بخطورة هذا السلوك، وألا يجامل أبداً في أي سرقة تصدر من أحدهم مهما كان حجمها، وأيا كان الاعتذار، فكل شيء قد يُقبل في البحث العلمي إلا السطو على أفكار الآخرين وسرقة كلامهم.
ثم إنَّ على الأقسام العلمية أن تقف موقفاً واضحاً من هذه الجريمة المخزية، وأن يكون تعاملها حازماً مع مثل هذه السلوكيات المشينة، وأن تتخذ إجراءات رادعة وصارمة تجاه كل باحث تصدر منه سرقة أياً كان نوعها وحجمها، وأن يتم التشهير به؛ ليدرك بقية الطلاب أنه لا مجاملة في هذا السلوك، مما يسهم في زيادة وعي الباحثين بهذه الإشكالية، وينعكس إيجاباً على إنتاجنا البحثي الذي يُنتظر منه مزيداً من الجودة والإتقان، ومن نتائجه الرقي بالوطن والمجتمع علميا وفكريا.