القصص الغرامية:
بالحبِّ ينفعل الوجود؛ فتزدهر الحياة، وتزهو الآداب، وتتألَّق الفنون.
عندما يتملَّك الحبُّ قلبَ الإنسان الموهوب، ويهيمن على عقله ومشاعره وخياله شيئاً فشيئاً حتى يحيله إلى عاشقٍ متيّم، تتفتق موهبة هذا الإنسان أدباً أو فناً. فيبدع الأديب قصيدة، أو قصة، أو رواية ، أو مسرحية، أو أي نوع سردي آخر. ويبدع الفنان رسماً أو نحتاً، أو أي تشكيلٍ فني آخر.
تتعدّد أشكال الحبِّ وتتنوّع، تعدُّد الكائنات في الوجود وتنوُّعها، مادية أو معنوية. فقد يكون موضوع الحب إنساناً أو حيواناً أو وطناً أو مدينة أو أيَّ كائن من الكائنات أو قيمة من القيم. ولهذا أبدع الأدباء الكبار كتباً عناوينها: قصة امرأة، وقصة مدينة ، وقصة جواد، وغيرها. والكتاب الذي بين أيدينا اليوم يحمل عنوان «قصة مكتبة: خمسون عاماً في صحبة الكتب والمكتبات في الوطن العربي وخارجه»، للأديب السعودي الأستاذ الدكتور عبد الله عبد الرحيم عسيلان.
أصول القصة وتقنياتها:
لكل نوع أدبي أو فني أصوله وتقنياته، التي ينبغي أن يلتزم بها المبدع؛ ليضمن لعمله الجاذبية والتشويق والنجاح والفائدة. فمن أصول القصة الناجحة أن تقوم على حكاية واقعية أو خيالية، تتخلّلها أحداث متسلسلة مترابطة زمنياً ومنطقياً في حبكة متماسكة متقنة، وتبرز فيها شخصية رئيسية أو عدة أشخاص، بينهم وشائج محددة، ولها مغزى اجتماعي أو فكري أو سياسي أو ما إلى ذلك.
وإذا نظرنا إلى «قصة مكتبة» بوصفها قصة عاطفية غرامية، فإن الشخصية الأساسية فيها هو المؤلّف العاشق عسيلان، والشخصية الأساسية الثانية هو الكتاب المعشوق.
ولكل قصة غرامية بداية تتمثل بلقاء المحبَّيْن؛ وعادة ما يتذكّر العاشق الذي يروي القصة أين التقى بحبيبته؟ ومتى وكيف؟ وما هو الشعور الذي أحسّ به؟ فإذا ألقينا نظرة عجلى على أشهر قصة غرامية في الأدب العربي، وأعني بها قصة مجنون ليلى، نجد أن الشاعر قيس بن الملوَّح يخبرنا شعراً بداية ذلك العشق بقوله:
«تعلّقـتُ ليلى وهي غرٌّ صغيرةٌ
ولم يبدُ للأتراب من ثديها حجمُ
صغيرين نرعى البَهمَ، يا ليتَ أننا
إلى اليومِ لم نكبر ولم يكبر البهمُ»
وكذلك مؤلّف «قصة مكتبة» فهو يخبرنا في الفصل الأول من كتابه «بداية الطريق» كيف وقع في حبِّ الكتاب أول مرّة. وكما استمعنا إلى مجنون ليلى يخبرنا عن بداية حبه شعراً، نستمع إلى عسيلان يخبرنا بذلك نثراً:
«كانت امرأة تناهز الستين... كانت تزور والدتي بحكم الجوار، وفي أول زيارة شدّتنا إليها بطيبة نفسها، وبراعة أحاديثها فهي تحكي لنا قصصاً مشوِّقة... وفضول الصغار دفعني إلى أن أسألها: من أين تأتين بهذه القصص؟ فقالت لي: يا ابني! هذه قصص وحكايات كنتُ أسمعها من والدتي في بلادي فلسطين، وكانت تخبرني أن والدها كان يقرأ علينا هذه القصص من كتاب اسمه «ألف ليلة وليلة»... كنتُ قد انتقلتُ في الدراسة إلى المرحلة الإعدادية [في المدينة المنورة]... وكان الذي يدرّسنا اللغة العربية أستاذ مصري... وتحيّنت الفرصة، فتوجهت إليه بالسؤال عن «ألف ليلة وليلة»... وسألته عن مكان وجودها، فأخبرني أنها في بعض المكتبات المجاورة للمسجد النبوي.
وفي مساء اليوم نفسه ذهبتُ أبحث عنها، فوجدتها... وبادرتُ بلهفة في قراءة الجزء الأول منها...».
المعمار الفني للقصة:
ولكن مجرَّد لقاء بين الحبيبين لا يشكِّل قصة غرامية ملتهبة مشوِّقة؛ فلا بُدّ من أحداث تقع لهما مع أشخاص آخرين، ينافسون العاشق في اقتحام قلب الحبيبة والاستيلاء عليه، أو يتكفِّلون بالوشاية، أو يحاولون صرف الحبيب عن المحبوبة وقطع أواصر المحبة بينهما. وهكذا تتكون بيئة قصصية، وتنمو لتضمّ عدداً من الأشخاص، كالأقارب المراقبين، والوشاة الحاسدين، والغرماء المنافسين، والأصدقاء الناصحين، وغيرهم.
فقيس بن الملوح، مثلاً، كان يشكو كثرة الرقباء الطامعين بحب ليلى:
أحقاً عباد الله أن لستُ وارداً
ولا صادراً إلا عليَّ رقيبُ؟
وكان يؤلمه ويثير استغرابه وتعجّبه كثرةُ الوشاة الساعين إلى قطع علاقته بليلى:
فلو أن واشٍ باليمـامـةِ دارُهُ
وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا
وماذا لهم، لا أحسنَ اللهُ حالَهم
من الحـظِّ في تصريمِ ليلى حباليا؟
وفي داخل المعمار الفني لـ«قصة مكتبة» يوجد كثير من الشخصيات المرتبطة حياتياً ومهنياً بالكتاب. وهم على طبقات، ويبلغ تعدادهم العشرات. فهناك:
ـ في الطبقة الأولى: مؤلّف الكتاب (أو المخطوط)، والقارئ.
ـ في الطبقة الثانية: المترجم، الشارح، المحرِّر (مَن يبسِّط الكتاب أو يختصره)، الناقد، المحقِّق.
ـ في الطبقة الثالثة: ناسخ المخطوط، طابع الكتاب، أو واضعه على الشابكة.
ـ في الطبقة الرابعة: موزع الكتاب، بائع الكتاب (في مكتبة، أو حراج، أو ما إلى ذلك)، الشابكة (الإنترنت)... إلخ.
وهؤلاء وغيرهم هم في العادة من عشّاق الكتاب الذين يسعون إلى اقتنائه والاستنارة بأنواره أو اتخاذه وسيلة للعيش.
ومؤلِّف «قصة مكتبة» يُدرك ذلك فيخصِّص فصلاً بعنوان «عشاق الكتب»، يفتتحه بعبارات جميلة الشكل عميقة المضمون ساحرة الأسلوب، تنمّ عن عشقه هو للكتاب. يقول:
«الكتاب مصدر إشعاعٍ لنور المعرفة، يستنير به المدلجون في ظُلمات الجهل. الكتاب منبع يتدفق في مسارب العطشى، برشفاتْ تُطفئ أُوار الظمأ في النفوس المتعطشة من ماء المعرفة العذب الزُّلال. الكتاب روضة غنّاء مكسوَّة بأزاهير العلم وثمار المعرفة...».
ولكنه يحذرنا من عدم التمييز بين العشاق الحقيقيين والعشاق المزيفين الذين يتظاهرون بالعشق، وليس لهم من لذة العشق الحقيقي نصيب؛ فهم يقتنون الكتب ليستكملوا بها تأثيث منازلهم الفاخرة والتباهي بها. وقد لا يعرفون حتى عناوين تلك الكتب أو مجالاتها المعرفية.
ويستفيض عسيلان في سرد أوصاف المحبوب وحسنه وحسناته، كما يحصل للعاشق عندما يتحدّث عن جمال الحبيبة ورونقها وبهائها، فيسهب في وصف وجهها الصبوح، وعينيها الهدباوين الناعستين، وشفتيها المتوردتين، ونحرها العاجي الطويل... إلخ... إلخ.
ولا تقتصر أفواج عشّاق الكتاب على العاملين في مهنة صناعة الكتاب وإنتاجه، بل أكثرهم من قرائه ومحبيه، الذين يقبلون عليه ويستأثرون به. ويتوقّع الإنسان وجود منافسة بينهم، فليس هنالك حب دون أن يحرّك عاطفة الغيرة لدى العاشق مهما كان كريماً متسامحاً، وذلك طبقاً للقاعدة التي صاغها شعراً الشاعر السوري البرازيلي رشيد سليم خوري (ت 1404هـ/ 1984م):
إني كريمٌ أُحب المال مشتركاً
لكن غيورٌ أحب الحُسن مُحتَكَرا
ولكننا لا نلمس أيَّ دليلٍ على غيرة عسيلان أو تضايقه من عشّاق الكتاب الآخرين؛ فهو يتحدّث عنهم بكل أريحية، ويسدي إليهم عبارات الثناء والتقدير. فيقول مثلاً عن أكبر هؤلاء العشاق وأشهرهم في الأدب، أبي عمرو الجاحظ، الذي كان يكتري دكاكين الوراقين فيمضي الليل كله في مسامرة حبيبه الكتاب:
«ومَن منّا لا يذكر رائعة الجاحظ، معلم الأدب والعقل، وعاشق الكتب، وهو يصف الكتاب بقوله: (الكتاب نِعمَ الذخر والقُعدة، ونِعمَ الجليس والعُدَّة، ونعم المُشتغَل والحرفة، ونعم الأنيس لساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل، ونعم الوزير والنزيل.
الكتاب وعاءٌ مُليء عِلماً، وظرفٌ حُشِيَ طَرفاً، وإناءٌ شُحنَ مزاحاً وجداً...)».
وإذا كان مجنون ليلى قد مات حباً ووجداً فإن الجاحظ مات من شغفٍ بجمع الكتب، فقد لفظ أنفاسه الأخيرة وهو يعانق كتبه ويتدثر بها، بعد أن سقط عليه صفٌّ منها وهو يقرأ في مكتبته في آخر حياته وأردته ميتاً.
ويتعاطف عسيلان مع عشاق الكتب الذين يضحّون بالغالي والنفيس من أجل المحبوب، فيذكر لنا أن العالم الأديب عبد الله المبارك (ت 528هـ) باع مِلكاً له ليشتري بثمنه كتاب «الفنون» لابن عقيل، وأن أبا زُرعة الرازي باع ثوبين عنده واشترى بثمنهما ورقاً لنسخ كتب الشافعي. ويبدو أن سرَّ تعاطفه مع هؤلاء العشاق كونه يتفهّم ما يجيش في صدورهم من حبٍّ طاغ، فهو نفسه باع وهو فتى ساعته الأثيرة ليشتري بثمنها كتباً.
ولا يتضايق مؤلِّفنا العاشق من وجود أولئك العاشقين الذين ينافسونه على التفاني في حبّ الكتاب، ولا تزعجه كثرتهم ولا شهرتهم، بل يرشدنا إلى كتاب «عشاق الكتب» من إعداد الشيخ عبد الرحمن يوسف الفرحان الذي «أجاد في رصد الأخبار المتعلقة بالكتب وعشاقها».
ما يثير الانتباه أن المؤلف عسيلان لا يتشكي من عشاق الكتب الآخرين، ولا يعدّهم منافسين له غرماء، بل يتحدث عنهم بكل محبة واحترام، كما لو كانوا من أصدقائه وأحبائه وأنسبائه، خلافاً لمجنون ليلى وبقية العشاق. وطبعاً يمكن تفسير ذلك بكل سهولة، فحبُّ الكتاب والأدب يخلق آصرة نسب بين المحبّين كما قال أبو بكر الصولي (ت-335 هـ):
إن الكتابة والآداب قد جعلت
بيني وبينك ـ يا زين الورى ـ نسبا
ويؤكد لنا الصولي أن الشبه سبب للمحبة بقوله:
أحببتُ من أجلهِ من كان يشبههُ
وكلُّ شيءٍ من المعشوقِ معشوقُ
وكان أبو تمام قد فسّر لنا هذه الظاهرة بتعاطف الناس المتشابهين مع بعضهم البعض، طبقاً لقاعدة «الطيور على أشكالها تقع»، فالتشابه والتشاكل في حالة الحبّ يجعلهم يشعرون بالتقارب. يقول أبو تمام:
فقلتُ: أخي، قالوا: أخٌ من قرابة؟
فقلتُ نعم، إن الشكول أقارب
في وسعنا القول إن الغيرة لا مكان لها إذا كان المحبوب شخصية اعتبارية أو روحية يشترك في حبها كثير من الناس، بحيث إن هذا النوع من الحب لا يؤدي إلى الحرام. فقد روي عن الرسول (ص) قوله: «جدع الحلالُ أنفَ الغيرة».
أسباب محبة الكتاب:
وما دام المؤلف عسيلان يعدّ عشاق الكتب الآخرين أصدقاء وأقارب وأحباب وليسوا غرماء منافسين، فقد أخذ يفتخر بقصائدهم الغزلية وأقوالهم المشهورة في إطراء الكتاب وحسناته، فيعرض علينا تلك الأقوال قديمها وحديثها، ومنها تلك الأبيات المشهورة لمحمد بن زياد الأعرابي -ت 230 هـ التي يعدّد فيها فضائل الكتاب وحسناته:
لنـا جُلساءٌ لا نمَلُّ حديثـهم
ألِبّاءُ مأمونون غيباً ومشهدا
يُفيدوننا من علمِهم علمَ ما مضى
وعقلاً وتأديباً ورأياً مسـدَّدا
ويذكِّرنا المؤلّف ببيت المتنبي المشهور الذي يصف فيه الإنسان الكامل بالقوة الجسدية الفائقة والمعرفة العلمية السامقة معاً:
أعزُّ مكانٍ في الدنا سرجُ سابحٍ
وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ
ويعزز استشهاداته الشعرية من القدماء بأشعار من كبار الشعراء في العصر الحديث، فيدلي لنا، مثلاً، بأبيات من شيخِ شعراءِ الإحياءِ والبعث في تاريخ الشعر، إسماعيل صبري (ت 1923):
إن الكتاب إذا حلا وازدانا
نِعمَ السميرُ إذا أردتَ بيانا
يُهدي إليك فكاهةً وروايةً
ويصونُ سرّك إن أردتَ أمانا
ويأتي بأبيات لأمير الشعراء أحمد شوقي (ت 1932 م):
أنا مَن بدّلَ بالكُتبِ الصحابا
لم أجد لي وافياً إلا الكتـابا
صاحبٌ إن عِبتَهُ أو لم تَعبْ
ليس بالواجِدِ للصاحبِ عابا
ويمكن تلخيص محاسن الكتاب التي تكررت في هذه الاستشهادات وغيرها مما أورده المؤلِّف من القديم والحديث في ما يأتي:
ـ الكتاب خير صديق مخلص وسمير أمين، لا يزعجك، ولا يخونك ولا يفشي سرَّك.
ـ الكتاب خير مؤنس، يزودك بالمعرفة الجادة، والأخلاق الحميدة، والفكاهة المسلية.
وأحسب أن تراثنا الأدبي قد اشتمل على أقوال مأثورة، تتضمن فوائد أخطر للكتاب، وإن لم تنص على اسم الكتاب. فالقول المأثور «العلم صيدٌ، والكتابة قيدٌ» يجعل من الكتاب صنواً للعلم ولازماً له. وكذلك في مراحل اكتساب المعرفة العلمية، التي يحدّدها ابن قتيبة (ت 276 هـ) في كتابه «عيون الأخبار» بما يأتي:
«أول العلم الصمتُ، الثاني الاستماع، والثالث الحفظ، والرابع العقل، والخامس النشر».
ويجعلها ابن عبد البر الأندلسي (ت 463 هـ) ستاً في كتابه «جامع العلم وفضله» هي:
«أول العلم النية، ثم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر».
والفرق بين المنهجيتين ليس شكلياً، بل فرق جوهري، سببه أن القرطبي يؤكِّد العناصر النفسية في العملية التربوية، في قضيتين: الإطار العقلي والمزاج النفسي اللازمَيْن لاكتساب المعرفة والمتمثلين في النية، والثاني تيسير حفظ المعرفة وترسيخها بالفهم. وهذا ما توصّل إليه علم النفس التربوي الحديث.
وعلى اختلاف المناهج لاكتساب المعرفة في تراثنا العربي فإنها تتفق في الغاية من اكتساب المعرفة، وهي الخطوة الأخيرة في المنهجيتين المذكورتين في أعلاه، أي النشر. ولا يتم النشر إلا بالكتاب. ولا ترمي هذه الغاية إلى مجرد نسخ المخطوط قديماً، أو طباعة الكتاب حديثاً، أو توفير المعلومات على الشابكة (الإنترنت) حالياً، بل إيجاد مجتمع المعرفة القادر على ولوج مصادر المعلومات، واكتسابها، واستيعابها، وتمثّلها، والإبداع فيها، والإضافة إليها، من أجل تحقيق التنمية البشرية التي تيسِّر التعليم لجميع المواطنين، وتحسين صحتهم، وترقية حياتهم بصورة تليق بالكرامة البشرية.
البحث عن المحبوب:
وكما ظل مجنون ليلى يتابع أخبار حبيبته ليلى، ويبحث عنها في صحاري نجد وبوادي العراق، وكما أخبرت قارئةُ الفنجان شاعر العشاق نزار قباني:
ستظلُّ تفتِّش عنها في كل مكان،
فحبيبة قلبك ليس لها أرض أو وطن أو عنوان،
ما أصعب أن تهوى امرأة يا ولدي ليس لها عنوان!
فقد كُتِب على المؤلّف عسيلان أن يمضي حياته في البحث عن محبوبته المخطوطة؛ لأن دراسة التراث العربي وتحقيقه من اختصاصاته. وتُقدَّر مخطوطات التراث العربي الإسلامي بحوالي خمسة ملايين مخطوطة، لم يُحقق منها إلا بضع مئات من الآلاف. وهي موزَّعة في مكتبات العالم. فكما أن ثروات الوطن العربي قد تناهبتها الأمم فإن كثيراً من مخطوطاته استولت عليها الدول الغربية بالنهب أو السرقة أو بالشراء بأبخس الأثمان من فقراء العرب الذين انتهت إليهم بعض هذه المخطوطات. وهكذا فقد سافر عسيلان إلى كثير من بلدان العالم بحثاً عن المحبوبة. ففي فصل «رحلتي مع المخطوطات» يخبرنا عن هذا البحث المحموم بلغة أدبية راقية، يقول:
«وراح الشوق العارم يشدّني إليه، ويتزايد يوماً إثر يوم، عند كل ومضة نور تطوى في مسارب دروبي اللاهثة مُزعةً من بساط الظلمة، حتى أصل إلى كُنْه ما أتقلَّب في محيطه من عالم المخطوطات، ومع كل بارقة أمل تُشرق في نفسي أُحسُّ بالرغبة تتجدَّد، والشوق يزيد، وإذا بي في محيطٍ يتجاوز بي حدود الزمن، ويكشف لي عن حقيقة أمَّةٍ تتجسد في آثارها، وأجيالٍ تتجافى جنوبها عن المضاجع وهي ترصد ذاتها، وتُشيِّد صرح حضارتها، بما تقدِّمه من عُصارة عقولها وفكرها عبر العصور المتلاحقة...».
ومن أجل لقاء المحبوب قام برحلات عديدة، قادته إلى مصر، وسوريا، وتركيا، والمغرب، وتونس، والهند، وهولندا، وألمانيا، وإسبانيا، وإيرلندا، وغيرها. ولا ننسى أن مكتبات المدينة المنورة زاخرة بالمخطوطات النادرة، مثل مكتبة رباط مظهر، ومكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت التي كتب مقالاً عنها نشرته عام 1388 هـ/ 1968م «مجلة العرب» التي أسسها العلامة حمد الجاسر.
وكما أن أهل المحبوبة يمنعون الحبيب من لقائها ورؤيتها يحدثنا الدكتور عسيلان عن المكتبة المحمدية في مدينة مدراس بالهند التي «تشتمل على ما يربو على ألفي مخطوط، ولكن لا يُنتفع بها؛ لأن القائمين على المكتبة يرون أن التصوير منها ربما يُخِلُّ بما يشعرون به من زهو لامتلاكها... ومن حيث لا يشعرون، يقتلون هذه المخطوطات ويئدونها...».
إضافة إلى أن معظم مكتبات المخطوطات في البلدان الإسلامية غير مفهرسة فلا ينتفع منها؛ ولهذا فالمؤلف الذي شغل منصب عميد المكتبات في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية يقترح أن توجِّه الجامعات طلاب الدراسات العليا في المجالات ذات العلاقة بإعداد رسائلهم العلمية إلى صورة فهرسةٍ لمخطوطات مكتبة من المكتبات، فتكون الرسالة ذات منفعة، وهذا أفضل من كتابة رسائل جامعية، لا يُستفاد منها، وتظل قابعة في الرفوف المغبَّرة. ومعروف أن النفعية هي من شروط المعرفة في الإسلام لقول الرسول (ص): «اللهم أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن عينٍ لا تدمع».
ويقارن المؤلِّف بين ما وجده من إهمال للمخطوطات في معظم البلدان الإسلامية والعناية بها في البلدان غير الإسلامية فيقول:
«من ذلك - على سبيل المثال ـ أنني زرت مكتبة شيستربتي في إيرلندا، فوجدتها في مكان جميل جذاب أخاذ، في وسط حديقة غناء، وفي بناء قديم أثري. وجدتُ هذه المكتبة قد وُفِّرت فيها سبل الرعاية والعناية بهذه المخطوطات، من ترميم وصيانة وجوٍّ مناسب، ورأيت أنهم وضعوها في غرفة جُهزت وخصِّصت لها، وعليها باب كأنه باب إحدى الخزائن في البنوك، وفيها وسائل إطفاء الحريق الذاتي...».
وهذا يذكرني بما كان يقوله لي أبي ـ رحمه الله ـ في صغري ليشجعني على القراءة. كان يردد: إن الفرق بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة يكمن في عناية الدولة بالكتاب، وإقبال الشعب على القراءة.
المجالات العلمية والمؤلفون في مكتبة عسيلان:
وكما يتباهى العاشق بجمال حبيبته فإن عسيلان يستعرض لنا محتويات مكتبته بطريقتين:
الأولى: يسرد لنا ما تحتويه من الكتب في كل مجال من المجالات التي يختص بها مثل:
كتب السيرة النبوية، كتب التاريخ والتراجم، كتب الرحلات، الكتب التي تتناول تاريخ مدينته، المدينة المنورة، كتب اللغة العربية والأدب والنقد بوصفه حاز الدكتوراه في الأدب والنقد من جامعة الأزهر بالقاهرة، كتب الأدب الأندلسي، كتب الشعر وعروضه وموسيقاه، البلاغة، الخيل.
الثانية: يسرد لنا ما تحتويه مكتبته من مؤلَّفاتِ كلِّ كاتبٍ مفضَّلٍ لديه، مثل:
امرؤ القيس ودوواين الشعر القديم، أبو تمام (لأن أطروحة عسيلان للدكتوراه في جامعة الأزهر كانت عن ديوان الحماسة)، أبو الطيب المتنبي ومصادر دراسته، أبو العلاء المعري، البحتري، محمود محمد شاكر (الذي يعدّه من شيوخه وأساتذته على الرغم من عدم دراسته عليه في الجامعة، ولكنه كان يستفيد من مكتبته وتوجيهاته خلال بحثه للدكتوراه)، مصطفى صادق الرافعي، عباس محمود العقاد، طه حسين، إبراهيم عبد القادر المازني، زكي مبارك، حمد الجاسر. الشيخ محمد ناصر العبودي.
وفي عرضه لكتب هؤلاء الأدباء في مكتبته يتحدّث عن مكانة كل أديب، وخصائص أسلوبه، وما قاله الأعلام عنه، ويورد أشهر أشعاره إن كان له شعر. يقول مثلاً عن زكي مبارك:
«تجرع في حياته غُصص الظلم والتجاهل من مجتمعه، ولعلَّ الشيء الكثير من ذلك يعود إلى طبيعة سلوكه وحدّته، وجنوحه إلى المصادمة والمشاغبة مع الأدباء والمثقفين في عصره، ولم يسلم منه كبارهم من أمثال طه حسين والعقاد وأحمد أمين وأحمد زكي باشا وسلامة موسى وعبد العزيز البشري. وقد أحسَّ بجنايته وأثر ذلك على عزلته حين أقرَّ أن ميادين كثيرة أُغلقت في وجهه، بسبب ما شاع وذاع من غرامه بالمشاغبات» (ص 371).
وأخيراً قائمة بالمطبوعات النادرة في مكتبته، وتضم 105 من الكتب مثل كتاب «شعراء الجاهلية» للأب لويس شيخو، المطبوع سنة 1890 م، وكتاب «مطالع البدور في محاسن ربات الخدور» للسيد حمد سليم بك، الطبعة الأولى القاهرة عام 1325 هـ / 1907م. وقائمة بمطبوعات الجوائب بالقسطنطينية في مكتبته وتضم ثمانية كتب مثل «العلم الخفاق من علم الاشتقاق» المطبوع سنة 1296هـ.
تقنيات قصة مكتبة:
لكل نوع أدبي تقنياته. وبما أن المؤلّف اختار نوع القصة للتحدث عن مكتبته فإنه استخدم كثيراً من تقنيات القصة، مثل: الحوار، والمناجاة، والرسالة، وغيرها من التقنيات. ففي حوار جرى بينه وبين مكتبته الذي حوّلها بالتشخيص إلى فاتنة جميلة تخاطبه فتقول له:
«ـ ألا تحادثنا؟! أما اشتقت إلى لقائنا واحتضاننا؟!...
ـ يا صاحبتي! أنت بهجة أيامي، ومَعين غبطتي وسروري، ما أشدَّ اشتياقي إلى رؤياكِ، والتمتع بالنظر إلى صفحاتك، وأيُّ صفحات تشعُّ نوراً، وتتوهج حبّاً وحبوراً...» (ص ص 14ـ 16). ويستمر الغزل.
عتبات الكتاب:
يشير مصطلح (العتبات) في النقد الحديث إلى النصوص الموازية للنص الرئيس، مثل: صورة الغلاف، والمقدمة، والإهداء، والهوامش، والتعليقات، والصور المصاحبة، وكلمة الناشر على الغلاف، وغير ذلك من النصوص المدعِّمة للنص الرئيس. وخصَّ الناقد الفرنسي جيرار جينيت هذا المصطلح بكتاب كامل عنوانه «العتبات»، نشره سنة 1987.
وقد دعم الدكتور عسيلان كتابه بعدد من العتبات. فالغلاف يزدان بصورة المؤلف وهو في مكتبته، كما وضع في آخر الكتاب مجموعة من الصور والوثائق التي اشتملت على صور لرفوف مكتبته، وصورة لتحقيق صحفي عنها.
كما ضم الكتاب ملحقاً مصوراً في آخره بعنوان «ثمار المكتبة: نماذج أغلفة مؤلّفات المؤلف» التي اختار منها أحد عشر كتاباً أثيرة لديه مثل «المدينة المنورة في آثار المؤلفين والباحثين قديماً وحديثاً»، وتحقيقه لكتاب «الحماسة لأبي تمام»، وتحقيقه لكتاب «معاني أبيات الحماسة» لأبي عبد الله النمري، وكان عدد من كبار الباحثين قد ذكر أن هذا المخطوط مفقود ولكن المؤلف عثر عليه في إحدى مكتبات أنقرة، وكتابه «حمد الجاسر وجهوده العلمية»، وكتابه «تحقيق المخطوطات بين الواقع والنهج الأمثل»، وهو الكتاب الذي نال على إثر نشره جائزة تكريمية من معهد المخطوطات العربية بالقاهرة.
وأخيراً فإن العتبة الأخيرة في الكتاب هي نماذج مصورة من الطبعات النادرة المتوافرة في مكتبة المؤلف، وتضم حوالي مئة صفحة (من ص 470 إلى ص 570)، بواقع صفحة لكل صورة غلاف كتاب نادر.
خاتمة:
يمثل كتاب «قصة مكتبة» للدكتور عبد الله عسيلان رحلة مشوِّقة في بحار المعرفة من خلال جولة ممتعة في مكتبته التي تشتمل على حوالي خمسة آلاف كتاب ومخطوط، انتقاها المؤلف بذوق رفيع، واقتناها أو صوّرها من جميع أنحاء العالم، من المكتبات ومراكز المخطوطات وأسواق الحراج، ومعظمها يتناول الثقافة العامة أو يتعلّق باهتماماته الشخصية في الأدب العربي والتراث الإسلامي، وتاريخ مدينته، المدينة المنورة. وقد صاغ المؤلف كتابه على شكل قصة حب جذابة، صاغها بأسلوب ساحر أخّاذ، يستخدم التقنيات السردية مثل الحوار والمناجاة؛ لكي يشد القارئ إليه، ويعرِّفه بذخائر الفكر والإبداع. والقصد من ذلك كله ـ بلا شك ـ تشجيع القارئ على مواصلة القراءة واكتساب المعرفة، في وقت تنحسر فيه القراءة في بلداننا العربية، بسبب الأمية التي تبلغ نسبتها أكثر من ثلث العرب، وندرة المؤلِّفين الكبار، وانحطاط قطاع النشر الذي يغلب عليه تجار كتب يغمطون حقوق المؤلّف، وتحدّ الأثمان التي يبالغون فيها من انتشار الكتاب، أضف إلى ذلك ضعف القوة الشرائية لدى المواطن بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية والاضطرابات الاجتماعية والنزاعات المسلحة.
يقع الكتاب في 580 صفحة من القطع الكبير، وطبع طباعة أنيقة بورق صقيل وإخراج بديع، وصدر عن دار الثلوثية بالرياض لصاحبها الدكتور محمد المشوّح.
** **
د. علي القاسمي - الكاتب أديب عراقي - مقيم في المملكة المغربية