د. إبراهيم بن محمد الشتوي
يمكن أن أتحدث عن علاقة الثقافة والعقاب من وجهة فلسفية ثقافية، بشكل موسع، بيد أنني أشعر بأن الحديث سيتحول إلى موضوع خارج ما أريد أن أتحدث عنه، غير أنه من المهم القول إن صلة الثقافة بالعقاب تنبني أساسا على صلة الذنب بالثقافة، ومن ثم العقاب، فما قد يكون ذنبا في ثقافة ما قد لا يكون كذلك في ثقافة أخرى، خاصة وأن مصادر الذنب متنوعة، وفي المجتمعات التقليدية، يأخذ «العيب» أو«العار» المساحة الكبرى من تحديد الذنب، أو الخطأ أكثر من القوانين المكتوبة في كثير من الأحيان، بل تجد القوانين المكتوبة تستمد قيمتها من ثقافة العيب أو العار، وكأنه هو الأصل الذي يقاس عليه الخطأ والقانون.
ويمكن أن أضرب على ذلك مثلا بقضية مشتهرة في العالم، تسمى بـ«جريمة الشرف»، وتتمثل بأن تجلب إحدى الفتيات العار لأسرتها، حين تقوم بما يخل بعادات الشرف، وغالبا من خلال إقامة صلات غير شرعية مع أحد الرجال، ينفضح أمرها عند الناس، مما يدفع أهلها الأدنين إلى غسل العار بقتلها.
وكثير من الناس يجادل بان هؤلاء الفتيات في الغالب بريئات مما نبزن به، وأن قصارى ما فعلن، هو الحديث، أو اللقاء البريء الذي لم ينتج عنه فعل الخطأ، ومع أن هذا قد يكون صحيحا، إلا أن «الشرف»، وهو قضية كبيرة جدا عند العرب، ويعتمدون عليها في تقويم الرجال، ولها منزلة عالية لا يحتلها إلا علية القوم، فإن ربطها بالمرأة، وسلوكها الذي لا يمت إلى الرجل على وجه الحقيقة بصلة يدل على أن تكوين هذا الذنب في أساسه لم يكن عقلانيا، والأمر فيه يعتمد على القول القديم:
قد قيل ما قيل إن صدقا وإن كذبا
فما اعتذارك من قول إذا قيلا
فالقضية المطروحة في «العيب» و«العار» ليست الصحة، والخطأ، وإنما هي أن «القول قد قيل»، ولذلك من الصواب القول إن هذا البيت ينقض آخره أوله، فإذا كان الاعتبار لفعل القول بغض النظر عن صحته وخطئه، فما معنى الاعتذار، إذا كان العذر سيكون بنفي صحة الفعل، ولعله من الصواب القول إن الاستفهام هنا ليس للاستعلام بقدر ما هو للتوبيخ، أو التهديد، وكأن القول حقيقة واقعة.
وهنا يتحول القول ليس بوصفه إدانة قانونية، وإنما بوصفه قوة إعلامية يمارس سلطته لتدمير الشخص الذي قيل فيه، بناء على قوة الإشاعة في تهييج الرأي العام، وإثارة حفيظتهم، فهو بهذا يصبح جزءا من الخطاب كما يعرفه ميشيل فوكو، ويصبح أداة لتحريك المجتمع، وتوجيهه بغض النظر عن عناصر الصواب والخطأ. مما يجعله خارج هذه الدائرة، وخارج دائرة الذنب، والعقاب، لأنه يتحول إلى واقع محسوس، الأمر الذي يفتح المجال أمام من شاء ليقول ما شاء مادام سيتحول قوله إلى حقيقة واقعة بعيدا عن القانون، بمجرد تردده بين أكبر عدد من الناس، وهذا يعني أن الأعراف والتقاليد وهي جزء من الثقافة تشغل الجانب الأكبر من تحديد الذنب، وتحديد العقاب أيضا، لأنه لولا هذا الموقف لما صار لحديث فتاة مع فتى كل هذه القيمة. ولو أنها أيضا اقترفت الذنب الذي تتهم به، لما كان عقابها في القوانين الشرعية أو الوضعية بهذه الصورة، فالحكم بقتل الفتاة لا يتساوى مطلقا مع الجلد والسجن المنصوص عليه في الشريعة.
بالرغم أننا لو قرأنا تلك العادات التي كانت المنطلق في قانون «غسل العار»، قراءة متأنية لوجدناها تمنح فعل الفتاة الشرعية في حالة من الحالات قبولا وتسويغا، ولو نظرنا مثلا نظرة سريعة إلى رواية عفاف بطاينة «خارج الجسد»، سنجد أن جزءا منها يقص المعاملة الجائرة التي لقيتها شخصية الرواية الرئيسة لأن بعض شباب القرية ضبطها مع أحد أبناء القرية تشرب الشاي في المقهى الواقع على الطريق بين المدرسة والبيت، وعندها عوملت معاملة المخطئة، وفي الوقت الذي كانت جدتها تطالب بقتلها لأنها دنست شرف العائلة والقبيلة بفعلتها تلك، نجدها -الجدة- كانت «خطيفة»، كما تقول الرواية، ف»جد» شخصية الرواية الرئيسة كان قد خطف جدتها من أسرتها، وبنى عليها دون إذن منهم، ولم يعب أحد عليهم ذلك، وكان الأولى أن يقال بأن هذه الفتاة جاءت على جدتها، ولا يلومها أحد على ذلك، ومثلها أيضا الحاجة أم محمود التي هربت من بيت والدها، ونزلت «دخيلة» على بيت شيخ العشيرة.
فالسبب هنا ليس غرابة الفعل، ولا نكارته في عرف القبيلة، والمجتمع، وإنما الانتشار على الألسنة، والتحول إلى مادة جيدة للتندر والسخرية، والإثارة، الأمر الذي يجعل العائلة في منزلة دون عن العوائل الأخرى دون حق واضح، أو مستند قانوني، وهذا أسوء ما يمكن أن يتعرض له الإنسان من عقاب حين يكون مبنيا على وشايات، وأكاذيب، وأحاديث الغرف المغلقة دون أن يحد ذلك قانون، أو يردعه نظام.