سهام القحطاني
ظن العقل العربي الحديث أن خلق إطار قومي للعرب سيكون المنقذ والمخلّص لهم من الاستعمار التركي، وأن وجود أيديولوجية تنبني على مفهوم القومية هي السبيل الوحيد لمناهضة سياسة التتريك. ووفق هذين المبدأين انطلقت الثورة العربية في مسارها الفكري عام 1913م بعد الدعوة إلى تتريك العرب، من خلال مؤتمر عربي عقد في باريس، دعا الدولة العثمانية إلى منح العربي استقلالاً يرتكز على الاعتراف التام بلغتهم وثقافتهم وحقوقهم السياسية. وهذا المؤتمر مهد لانخراط العرب في الثورة العربية العسكرية ضد الدولة العثمانية؛ إذ إن الجمعيات التي دعت إلى الثورة الفكرية كجمعيتي العهد والميثاق هما من شجعا العرب من خلال الشريف حسين لمشاركة العرب بريطانيا في حربها مع الدولة العثمانية.
وفي عام 1936م تشكلت “الجمعية العربية” في مصر، وكان من أبرز مؤسسيها عبد الرحمن عزام ومنصور فهمي وأسعد داغر. واستطاعت تلك الجمعية أن تؤسس ميثاقًا، عدّ القاعدة الذهنية لأدبيات القومية العربية وثقافتها.
فقد استطاعت أن تُؤصل لمفاهيم مثل “الأمة العربية، البلاد العربية، النظام العربي، العروبة”. وذلك التأصيل بدوره كان المؤسس الرئيس للعقل العربي الحديث؛ إذ نقله من حقبة الهوية الشمولية إلى خصوصية الهوية، تلك الخصوصية التي برزت في ترسيخ مبدأ الهوية الجديدة التي تقوم على أن الدول العربية هي “دول قومية لا دينية”.
هذا المبدأ الذي أخرج العرب من إطارهم الديني إلى إطار القومية العربية، والقومية العربية كما عرفتها الجمعية العربية “مجموعة من الصفات والمميزات والحقائق والإرادات التي ألفت بين العرب، وكونت منهم أمة متحدة في الوطن واللغة والثقافة والتاريخ والمطامح والآلام والجهاد المستمر، والمصلحة المادية والمعنوية المشتركة”.
أما لماذا انسلخت الهوية العربية الجديدة من العباءة الدينية، ورسخت مضمونها في المحتوى القومي؟ فيمكن تحليل هذا الاتجاه في ثلاث نقاط، هي:
* طبيعة الارتباط الديني، وهي طبيعة اشتراطية متعلقة بمفهوم الخلافة والهوية الشمولية، وهو ما يعني العودة إلى المربع الأول والاستسلام للدولة العثمانية كونها هي الممثلة للرمزية الدينية، وهو ما يسعى العرب في ذلك الوقت من التخلص منه والاستقلال عنه.
لذا فإن التخلص من مبدأ الدين في تأسيس الهوية العربية الجديدة هو تخلص من وصاية الدولة الدينية المتمثلة في الدولة العثمانية.
وبذلك كان من الضروري قطع الرفع الديني في تشكيل الهوية العربية الجديدة للتخلص من حكم وسيطرة الدولة الدينية.
* إضافة إلى أن العقل القومي العربي الذي نشأ برعاية بريطانيا، وبتحريض منها لتحشيد الوعي العربي للتمرد على الخلافة العثمانية، والمشاركة في حربها ضد تركيا، لم تكن لتسمح له بنشوء دولة دينية إسلامية جديدة ترث الدولة العثمانية.
* كما أن حمى فصل الدين عن الدولة التي شاعت في أوروبا لم تكن بمنأى عن مؤسسي فكرة القومية العربية؛ ولذلك ظنوا أن من الأفضل أن يبدأ الطريق من حيث انتهى الآخرون.
وليس الدين هو السبب الوحيد لبروز فكرة القومية بل الأمر يعود أيضًا إلى ما أصبحت عليه الطبيعة الجغرافية الجديدة، أو ما سُمي بعد ذلك “بالمنطقة العربية” التي تتشكل من مجموع من الدول القطرية التي تجمعها اللغة المشتركة والتاريخ المشترك، ويعيش فيها الكثير من المسلمين العرب والكثير من المسيحيين العرب، الذين رسخوا لمبادئ الفكر العربي الحديث وأدبياته وثقافاته.
وإدخال الدين في تشكيل هوية المنطقة الجديدة يعني إخراج العرب المسيحيين الذين رافقوا العرب المسلمين في كفاحهم ضد تركيا، كما هو إنكار لدورهم الفعال الفكري والثقافي والأدبي، كما أن حضور الدين كجزء رسمي للهوية الجديدة هو تمييز ديني يخرج كل غير مسلم من إطار المواطنة في الدول القطرية الجديدة.
وهكذا برز مصطلح “المنطقة العربية” الذي ما لبث أن تحول في السياسات العالمية إلى مصطلح “الشرق الأوسط” عند إعلان إسرائيل دولتها عام 1948م.
لا شك أن توثيق الهوية الجديدة للعرب بالقومية هو في المقام الأول “مقاومة” لفكرة تفكيك الهوية العربية التي سعت إليه الدولة التركية؛ لتصهير العرب وإعادة تشكيلهم وفق هوية جديدة، تضمن من خلالها تركيا التحكم برقاب العرب؛ ولذلك اعتمدت المقاومة على “تقوية” ما تسعى تركيا إلى تصهيره وهي اللغة؛ لذا كثرت في هذه الفترة الأبحاث المتعلقة باللغة العربية، وإعادة إحياء التراث اللغوي والبلاغي للعرب، وظهور المدارس الشعرية المقلدة للشعر العربي في عصوره الذهبية كالأموية والعباسية، كل تلك الثورة اللغوية كانت لحماية اللغة العربية التي بدأت تضعف بسبب سياسة التتريك.
إن فكرة “خلق هوية جديدة” خارج الإطار الديني هي فكرة يحيطها الكثير من التهديدات ليس على المستوى النخبوي بل على المستوى الشعبي، فالوعي الشعبي الذي تربى سواء بالواقع أو بالوراثة مئات السنين على أن الدين هو أساس هويته سيستيقظ فجأة على تغير مسار صادم لتلك الهوية في انتقالها من الدين إلى القومية.
ولذا كان لا بد من إيجاد منظومة تبريرية لدى دعاة استبدال الدين بالقومية لامتصاص مقاومة الوعي الشعبي.
وقد اعتمدت تلك المنظومة في المقام الأول على “تشويه الدولة العثمانية” من خلال الحملات الصحفية والأدبية. ومما ساعد على نجاح ذلك التشويه ممارسة الدولة التركية سياسة طاغية في الدول العربية وتفقير الشعوب العربية بسبب سياساتها الاقتصادية في المنطقة، وتهميش دور العرب السياسي، ثم جاءت فكرة تتريك العرب لتكون الشعرة التي قصمت ظهر البعير.
وبعدها دخول تركيا الحرب مما زاد من خوف العرب على مصيرهم عندما تُهزم تركيا، وهزيمتها تعني أن مصير العرب سيكون مفتوحًا على كل احتمالات المجهول، بما فيها احتمال توزيعهم على الدول المنتصرة، وهو ما حدث فيما بعد، في ظل الهوية الجديدة، لتذهب وعود بريطانيا للشريف حسين ولمفكري العرب في ضمان دولة عربية مستقلة ذات سيادة كاملة أدراج الرياح.
إن فكرة القومية كإطار لتشكيل الهوية العربية الجديدة لم تكن لتنجح إلا عبر ثلاثة مستويات (المستوى الفكري والمستوى الشعبي والمستوى السياسي)، وقد مثل الشريف حسين الظهير السياسي للثورة العربية، ولولا هذا الظهير ما كانت لتتم الثورة العربية في مسارها الفكري. أما مسارها السياسي فلم يكن يخلو من جدليات الوهم والخداع. (وللحديث بقية).