تحقيق - عادل الدوسري:
يلحظ المقربون من المشهد الثقافي، والمراقبون عن كثب، وجود فجوة بين الجيل الجديد من الكتّاب والمثقفين والمؤسسات الثقافية المتمثلة في دور النشر والأندية الأدبية والمكتبات العامة، وذلك على صعيد النشر والانتشار، أو على سبيل البروز الإعلامي. وهذه المشكلة ليست وليدة اليوم، ولا تخص أبناء هذا الزمن فحسب، بل إنها مشكلة ممتدة ومتجذرة منذ عقود على المستويَيْن العربي والعالمي؛ فقد ألمح أكثر من كاتب إلى المعاناة التي وجدوها وواجهتهم إبان طرح أعمالهم الأولى، حتى أن بعضهم قد تكلف دفع الثمن باهظًا في سبيل التسويق لأفكاره، ونشر نتاجه الأدبي والثقافي؛ وهذا ما دعا بعضهم للإحجام عن النشر، وراح ليسوق نشره عبر وسائل التواصل الاجتماعي مستفيدًا من التقنيات الحديثة التي ربما تقربه للقارئ بصورة أسرع وأسهل وأقل ثمنًا.
* المجلة الثقافية توجهت بهذه الأسئلة للمسؤول الإداري بنادي أدبي الطائف ومجموعة من الكتّاب والكاتبات الشبان..
(ماذا عن علاقة المثقفين والأدباء من الشبان بالمؤسستين الثقافية والأدبية؟ هل هي علاقة تكاملية أم متنافرة؟ وهل يتوجب على الكاتب تسويق إنتاجه بنفسه؟ ومَن يحتاج إلى الآخر أكثر؟!)
بداية، نفى الدكتور أحمد الهلالي، المسؤول الإداري بنادي الطائف الأدبي ورئيس جماعة فرقد الإبداعية، وجود تلك الفجوة؛ إذ أجاب قائلاً: ألمس إقبالاً من المثقفين الشباب السالمين من لوثة قطيعة المؤسسات الثقافية لمواقف نفسية أو تياراتية أو تحسسات وهمية. أما ما أراه في نادي الطائف الأدبي فهي علاقة تكاملية متنامية بحسب اهتمام المبدع الشاب وهمته، ولم ألمس تنافرًا. وفي مجمل القضية فإني أرى بطلان (المظلومية) التي يستشعرها المبدع الشاب، ولا مكان لها من الإعراب كقضية، وإن تمادى في الشعور بها ستكون لها تبعاتها السلبية على إبداعه. وكم أتمنى على الإعلام ألا يجاريه في هذا الاتجاه؛ فاعتداده بذاته وبإبداعه (نفسيًّا) سوغ لبعض الشباب قبل النضج التجرؤ على اتهام قامات مشهود لها بالفضل والتميز، واتهام المؤسسات بالانحياز للكبار، ومطالبتها بالمساواة بينه وبينها، وهو لا يزال في خطوته الأولى.
وأشار الدكتور الهلالي إلى أن تسويق المنتج الأدبي عملية نسبية، وقال: في عالم اليوم أصبح التسويق متاحًا للجميع من خلال وسائل التواصل الحديثة، سواء بعرض الأعمال على المؤسسات، أو عرضها على الشبكات المختلفة. وكذلك فقد سهلت تلك الوسائط الوصول إلى المؤسسات بأقصر وقت وأقل جهد. وبكثرة الإنتاج الثقافي والفكري صارت المؤسسات تكتفي بفتح أبوابها (التقليدية والتقنية) انتظارًا لمن يتقدم إليها، وصارت اشتراطاتها في قبول الأعمال أكثر من ذي قبل. وأضاف عن مدى احتياج الدار للكاتب أو العكس قائلاً: «الكل منهما يحتاج للآخر؛ فلا نتاج بلا طباعة، ولا طباعة بلا نتاج.. والعملية قائمة على التكامل».
الكاتب بدر العسيري الذي حقق إصداره (مذكرات رجل خائف) انتشارًا جيدًا على المستوى الخليجي أجاب قائلاً: للأسف، إنها (المؤسسات الثقافية والأدبية) ما زالت متشبثة بالرعيل الأول للأدب، وهذه حقيقة لا يمكن تجاهلها، وهي مكشوفة للعيان. وأيا كان، فلا أحد يحب إقحام نفسه في المكان الذي لا يشعر فيه بالأريحية، أو أن يحضر ليصبح نصيبه من حضوره التجاهل، فضلاً عن جانب التقصير الواضح بإرسال الدعوات والإعلانات؛ فتجد أن أغلب الحضور في الأصعدة والأنشطة كافة مختص بفئة معينة دون غيرهم، وأسماء مكررة لا تتجدد.
وأثنى العسيري على الدور الذي تقدمه جمعية مسك قائلاً إنها لمست الحراك الأدبي ونشاطه مؤخرًا؛ لتحتضن الشباب، وتقدمهم في شتى المجالات. أما عن تسويق الكاتب لنفسه في ظل شعوره بهذا التقصير من المؤسسات فعلق قائلاً: تظل عملية مشتركة بين الكتاب ودور النشر. وفي الآونة الأخيرة ومع تزايد عدد الكتّاب الراغبين في النشر تحولت لعملية تنافسية لاستقطاب أعمالهم، غير أن هذا أثر سلبًا على الكتاب بسبب الغزارة الإنتاجية وضعف الجودة، وتحوُّل المسألة إلى أمر تجاري بحت. واختتم حديثه عن مدى احتياج الكاتب لهذه المؤسسات مؤكدًا أن الكاتب في بدايته يحتاج لدار النشر لجهله بالخطوات النظامية، وبحاجة للدعم في خطواته الأولى.
أما الكاتبة غدير الخلف التي أصدرت مؤخرًا عن دار تشكيل كتابها (معضلة نسيانك) فقد اختلفت قليلاً مع هذا الرأي بقولها: أرى أن تجربتي في عالم الكتابة تختلف عن تجربة الآخر؛ فلكل منا طريقته في ظهوره بوصفه كاتبًا لأول مرة؛ فالبعض يسعى باحثًا عن مؤسسة جيدة، تتكفل بكتابه، وآخر تأتيه أفضل المؤسسات دون أن يسعى. ولأن التعميم لغة الجهلة فلا يمكنني أن أحكم على الجميع من خلال تجربة واحدة، وسأكتفي بعرض تجربتي؛ إذ قامت أكثر من مؤسسة بدعوتي للتكفل بمصاريف الكتاب كافة. وقد عزت الخلف ذلك إلى ما وجدوه في نصوصها، وأثنت على الدار التي تعاملت معها في تجربة النشر الأولى قائلة: لا أنكر فضلهم في تشجيعي على القيام بهذه الخطوة، وإصدار كتاب يحمل اسمي.
وأكدت الكاتبة منيرة سعد التي صدر لها مجموعة قصصية وروايتان وجود هذه الفجوة بين الكاتب الجديد والمؤسسات الثقافية؛ إذ تحدثت قائلة: لقد أصبحت العلاقة شبه ضعيفة فيما بينهما، وغير متكاملة، والكل منهما يبحث عن مصالحه دون التفكير في تنمية الثقافة والأدب. مؤكدة في الوقت نفسه احتياج كل منهما للآخر، وضرورة بذل الجهد من الطرفين لتسويق المنتج الثقافي والأدبي.
أما صاحب رواية نيكتوفيليا، الكاتب فهد الشهري، فقد عبَّر عن رأيه بالقول: أعتقد أن المؤسسات الثقافية لم تتوقف عن النشاط، ولكن نشاطها في محيطها الضيق، ولم تحاول أن تجدد أدواتها للوصول إلى المثقفين والأدباء من الشباب. والواجب على هذه المؤسسات أن تصل أيديها ويصل صوتها حيث يوجد الشباب من الجنسين في معارضهم وملتقياتهم وفي وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة في الوقت الذي انتشرت فيه الرسائل السطحية بسبب سطحيتها؛ ما دعا بعض المثقفين والأدباء إلى الوقوف في الصف الثاني من المشهد الإعلامي والثقافي والأدبي منتظرًا هدوء عاصفة لن تهدأ، أو يدًا تشير له بالتقدم. ومن هنا يفتقد التكامل؛ فالاستقطاب المغناطيسي يحتاج إلى مسافة قريبة، لا توفرها المؤسسات الثقافية حاليًا لجيل الكتّاب الجُدد. ورأى أن على الكاتب تسويق نفسه وإنتاجه دون الاعتماد على مؤسسات الثقافة، مع مراعاة عدم الوقوع في أتون الابتذال.
واتفقت الكاتبة والقاصة جمانة السيهاتي مع هذا الرأي معلقة بالقول: في اعتقادي الخاص إن العلاقة بين المؤسسة الثقافية والكاتب أصبحت متنافرة بالفعل؛ إذ تقوم غالب المؤسسات باستقطاب ودعوة فئة معينة وأشخاص لهم جذور، بينما الجدد في هذه الساحة لا تجد من يرعاهم أو يشجعهم. وحمّلت السيهاتي مسؤولية تسويق الإنتاج الأدبي على عاتق المؤسسات الثقافية؛ إذ قالت: أرى أنه من الواجب أن يكون على المؤسسات ودور النشر تسويق كتب وأفكار أولئك الكتّاب، وهذا لا يتحقق قبل الاختلاط بمجموعة من الكتّاب الجدد، والاطلاع على ما لديهم من أفكار. معللة ذلك بأن الحاجة بينهما متبادلة.. وتأسفت مما يجده البعض من تجاهل وظلم إعلاني وثقافي. واتفقت الكاتبة والقاصة رباب محمد مع طرح سابقَيْها؛ إذ قالت: العلاقة متنافرة، وأجد شرودًا من الأدباء عنها، وعدم جذب من المؤسسات الثقافية لطبقة الكتّاب الشباب. الحلقة مفقودة فيما بينهما، ولا يوجد خط التقاء إلا فيما ندر.
وعن التسويق بعد النشر علقت: العملية تكاملية، ولا غنى لأحد عن الآخر، وإذا تخلى أحد عن دوره فسوف يكون هناك اختلال واضح.
أما الشاعرة دلال راضي فقد رأت أن هذه العلاقة غير واضحة الملامح؛ إذ ذكرت في إجابتها: ليس لهذه العلاقة محددات واضحة، نستطيع من خلالها قياس طبيعة هذه العلاقة، ولكنها تبقى علاقة تكاملية، وإن كانت متأرجحة نوعًا ما، أو غير كاملة الانسجام بما يلبي تطلعات هؤلاء الشباب.. فغالبًا ما يكون لدى الشباب متطلبات مرتفعة السقف، وضمن رؤية تصر على المثالية والكمال، ودون مراعاة للتوازن بين الرغبات والإمكانيات المتاحة والمسموحة، وترك مساحة لنسبة مسموح بها من الخطأ البشري والتقصير الخارج عن الإرادة؛ حتى لا نجعل من تصيد الأخطاء شماعة نعلق عليها سلبيات المؤسسات الثقافية والأدبية، ونتناسى كل الجوانب الإيجابية التي يجب أن تُبنى عليها العلاقة بشكل واضح.
واتفقت مع أغلب الكتّاب والكاتبات فيما يخص تسويق إنتاجهم قائلة: إن على الكاتب أو الكاتبة تسويق إنتاجهم وعرضه، ومن ثم يأتي دور المؤسسات في طباعته وتسويقه بعد الطباعة والنشر. وهذا لا يعني أن الأفضلية للناشر أو أن الكاتب مجبر على ذلك؛ فالكاتب حين يتقدم لإحدى دور النشر فإنه يبحث عن العرض الأفضل من خلال معايير تتناسب مع رؤيته وإمكانياته؛ كون دور النشر تتنافس لاستقطاب الكتّاب ضمن معاييرها أيضًا؛ فالكل منهما محتاج للآخر بالقدر نفسه الذي تحكمه المعايير.
أما الكاتبة مريم سليمان، التي كان إصدارها الأول عبارة عن مشاركة مع كتّاب وكاتبات عدة، فذهبت للقول: ليس هناك تواصل ولا إمكانية وصول سهلة إليها. بالطبع العلاقة بينهما ليست تكاملية، وفي الوقت نفسه ليست متنافرة. أعتقد أن السبب هو عدم وجود تنسيق وتنظيم من خلال المؤسسة الثقافية والأدبية، ونشاطها شبه منعدم، أو عدم وجود تسويق ناجح لها. كما أكدت مريم أن الكاتب عليه مهمة التسويق لأفكاره الإبداعية، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. مؤكدة أن على المؤسسات الثقافية دورًا مماثلاً في البحث بحثًا دقيقًا عن الإنتاج الفكري الفذ، معللة ذلك بالقول: إن الكتابة شيء يبقى على المدى البعيد. ومن وجهة نظري، إن الاحتياج بينهما متساوٍ بين الطرفين؛ فالمؤسسة بحاجة لمبدعين، والمبدعون بحاجة لمؤسسات تتبنى هذا الإبداع، وتعين على إظهاره باحترافية متقنة.
أما نورة المعطاني، الكاتبة التي صدر لها مؤخرًا كتاب بعنوان (شفاه تخرس الظلام)، فعلقت بالقول: عند ذكر المؤسسات الثقافية والأدبية يتبادر إلى الأذهان القامات الأدبية الكبيرة. كلمة تعودنا أن يطل من خلالها النخبة من الكتّاب غير أن الساحة الآن تتسع للجميع، ونرى الشباب يعتلون المنابر الثقافية، وليس الأمر بهذه الصورة من التضاد، بل محضن وإشراقة نتوسم من خلالها المزيد. وأضافت بأن العلاقة بينهما قائمة على منفعة تبادلية بين الكاتب والمؤسسة، وهي في الوقت ذاته تكاملية؛ إذ يكمل أحدهما دور الآخر. أخيرًا قال الكاتب فيصل الحمودي: فعلاً هذا ما يحدث مع الأسف، مع أنه من المفترض من هذه المؤسسات احتواء الكتّاب الشباب، ونقل كل المعرفة والخبرات إليهم؛ ليكونوا من بعدهم، ولكن ما نراه فعلاً وما نشعر به نحن الكتّاب هو استبعادنا من تلك النوادي والمؤسسات الثقافية والمكتبات العامة، ووضع النخبويين والكتّاب المعروفين فقط على منصة المشهد الأدبي والثقافي. ومن وجهة نظري، يجب أن يكون هناك تمازج بين المدرستين؛ ليخرج لنا جيل مواكب لهذا العصر، إنما بنفحة نخبوية أصيلة، زرعها الكتّاب النخبويون والمؤسسات الثقافية والأندية الأدبية؛ لأن غالبية ما نراه هو حكر عليهم، بل إنهم أحيانًا يرون هؤلاء الشباب فارغين، لا خبرة لديهم، وغير مثقفين.. ولعل في محاضرات وملتقيات معارض الكتب مثلاً وخير دليل وشاهد على ذلك. وأردف قائلاً: على الكاتب أن يسوّق إنتاجه بنفسه. وأعزى ذلك إلى أسباب عدة، منها الهدف المادي البحت لغالبية المؤسسات، وغزارة الإنتاج بغض النظر عن المحتوى؛ فقد كانت الدور سابقًا تبحث عن المنتج الجيد، عندما كان هدفها ثقافيًّا أدبيًّا بحتًا، يرمي إلى تغذية الفكر والمشهد الثقافي، أما الآن فلم يعد مهمًّا لديهم المحتوى بالقدر الذي ستجنيه تلك المؤسسات من أرباح مادية.