اهتمَّ المفسّرون والبلاغيون والنقاد والأدباء بالمطالع والمقاطع والمقاصد, وأولوها عنايةً فائقةً, واختلف تناولهم لها اختلافاً متبايناً: منهجاً وطريقةً ومادةً, وتناولوا هذا المعيار الجمالي في النص القرآني والنبوي والشعري والنثري؛ لإيمانهم العميق بخصوصية الأعمدة الثلاثة للنص: المطالع والمقاطع والمقاصد. وانطلقوا بمنهج تحليلي يتتبع التعانق اللفظي والمعنوي، ويبحث في قوانين التناسب التي تحقق في النص انسجاماً وائتلافاً, وذلك لا يتم إلا بالنظر الدقيق، والتأمل العميق في أثناء المباني؛ للوصول إلى أسرار المعاني.
فالمؤلف يبني نصه على مقصدية عميقة هي نواة النص, ثمَّ يجسِّد هذه المقصدية في نصه, وعند الإبانة عن هذه المقصدية تحضر عنده بكثافة في مطلع النص؛ فيحاول ربط مقصديته بمطلع نصه: تصريحاً أو تلميحاً، ثمَّ ينطلق في نصه معالجاً مقصديته بالأسلوب الذي تبناه, وعند ختام النص يؤكد فيه هذه المقصدية, رابطاً خاتمة النص بمطلعه، وهذه المنهجية حاضرة في النصوص الأدبية؛ لتجعل النص بكامله يعود إلى نواة واحدة هي مقصدية النص؛ فالنص «يتأسس وينمو بناءً على نواة معينة يسميها ريفاتير بالمولِّد (Matrice )، ثم بعد ذلك يتم تمطيطها، فتتحول إلى أشكال وصور تعبيرية هي التي تنسج خيوط نص بأكمله. إنَّ المولِّد عند ريفاتير هو أقرب إلى المعنى المجرد, أو الكلمة المفتاح التي تختزل دلالة النص».
ومن منطلق الإيمان بهذه الفكرة تتجلَّى قيمة دراسة المطالع والمقاصد والمقاطع في النص الأدبي, والبحث عن مقصدية النص، وأدوات الربط فيه؛ للكشف عن نسيج النص ومدى انسجامه.
لذا اهتمَّ البلاغيون بمواضع التأنق في الكلام: حسن الابتداء, وحسن التخلص, وحسن الانتهاء, وعدوها من بلاغة النص الأدبي، وأفردوها بمبحث خاص في مؤلفاتهم البلاغية. فالمطلع هو أول الكلام ومستهله, ومطلع الكلام له قيمته النفسية والاجتماعية والبيانية, وله خصوصيته المقصدية، والقريب من النفس يُقدَّم على غيره قصداً وعن غير قصد, قال سيبويه: «يقدِّمون الذي بيانه أهم لهم، وهم ببيانه أعنى، وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم», فتجد الشاعر والكاتب والقاص والروائي يجعلون في مطالع إبداعاتهم خلاصةً قيمة، وكلاماً بليغاً، وتعبيراً - بصدق- عن أهم خلاصة تجاربهم, ويوظِّفون من خلال المطلع مقاصدهم وأهدافهم وما يرمون إليه بدقة متناهية, بل تنتقل هذه الجمالية من النصوص الإبداعية إلى حياتنا اليومية؛ فيظهر بوضوح قيمة مفتتح الكلام، والبدء في أجمل ما حفظته الذهنية، وتجويده، وإخراجه بأجمل صورة؛ لإيمانهم العميق بأهمية بيان المطلع وجماله، وما يتركه من أثر عميق في نفوس المتلقين، حيث إنَّه الأبقى ثباتاً، والأبلغ بياناً، وهذا ما نصَّ عليه كثير من البلاغيين والنقاد.
** **
- بدر بن طاهر العنزي