يهرول الزمن سريعاً حتى لا تكاد تُمسك به ولا تتنشق من عبير سنينه إلا النزر اليسير فتضيق المسافات كلها تاريخيا وجغرافيا فبين عصر اليونانيين والعصر الحديث ظل مخاض نظريات الحريات والفوضى والاستبداد عسيراً منذ القرون الأولى حتى أنتجت منظومات مؤدلجة تسير وفق رؤى وقواعد هُذّبت مع تقادم الزمن! ليست الديمقراطية والأنظمة الشمولية إلا أبحاثاً استغرقت من العمر أكثره وحضارات عبر أجيال تعاقبت وقد كُتبت بخيوط رفيعة تشابك بعضها البعض فاختلطت على الحائك الحاذق وإن كان خارجها بيّناً إلا أن فيها من الغموض الشيء الكثير، حيث إنها مفتوحة الحدود ومعاييرها بيزنطية الصنع تسير وفق الأطماع والنوايا والمصالح المشتركة! بين أرسطو وأستاذه أفلاطون وميكيافلي عبثية من النظم في ظل ضبابية شديدة الإبهام اشتركت فيها الشعوب باقتطاف ثمرات الجهل والجشع وانتظم السياسيون باستغلالية انتهازية نتجت عنها حروب طاحنة لم تتوقف حتى يومنا هذا وسببه الفهم الخاطئ للفلسفة والأفكار المنظمة للمدينة الفاضلة بقصد ودون قصد ناهيك عن حب السيطرة والنزعة الفاشستيه للتوسع اللا منطقي!
هناك ظلم كبير يقع على الفلورنساوي نيقولو ميكيافلي أو اتهام غير صحيح فقد حفظنا العبارة الشهيرة الميكيافلية التي تقول (إن الغاية تبرر الوسيلة) ففي ظاهرها العذاب وفي باطنها قد تكون رحمة مشروطة لو قُرأت أفكار ميكيافلي بعناية وبطريقة صحيحة لمن ينشد الحقيقة ولكن استخدمت في أبشع العمليات التآمرية المليئة بالنفاق والكذب والتزييف وكل ما يندرج تحت الحلف الشيطاني الآثم بتبريرات قد تكون أسخف من أصحابها حتى يُغفر لهم ما ارتكبوه من آثام وجرائم باسم نيقولو ميكافيلي البرئ براءة ذئب سيدنا يوسف عليه السلام من تلك الجرائم! ولكننا حفظناها ونسبنا كل الآثام المترتبة لميكيافلي، فالدوتش موسوليني الدكتاتور الفاشي حين أراد أن يحذو حذو هتلر في إحكام قبضته على إيطاليا ثم يجيّش الجيوش للتمهيد للمستعمرات الجديدة كان الثناء الكبير والقدوة التي اتخذها مثالاً احتذى به لمسيرته قراءته لأفكار ميكيافلي بطريقته الخاصة وليس كما كان يهدف نيقولو إليه في كتابه الموسوم (الأمير) والذي قدم له موسوليني في إحدى طبعاته كتبرير لما سيفعله! فما سطره ميكيافلي في كتابه كان كالسيف في استخدامه إن شئت كان في العدل والمنطق وإن شئت كان في الظلم والقسوة ولكل له وجهته وتطلعاته بحسب قلبه وعقله وما تمليه عليه طموحاته وقناعاته ولكن يبقى هدف ميكيافلي الرئيس في وجهته عن كل عنوان خطته يداه في بناء الدولة بإستراتيجية صحيحة اقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً والأهم من ذلك ضمان استمرارها كما ينبغي حتى ولو كان على حساب المبادئ الإنسانية والأخلاقية إن كانت تؤدي بالدولة إلى الهلاك والفناء وإلى سقوط الحاكم! وهذا منطقي وعادل كالقاعدة الفقهية الإسلامية التي تقول إن: (درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح) فإن كانت المثاليات والحريات ستؤدي إلى هلاك ودمار فهي مفسدة وهكذا تعامل ميكيافلي معها حين تعارضت مع المصالح العامة! فجعل الأولوية هي ضمان استقرار وأمن الدولة وطموحاتها وعدم التساهل والتهاون بسذاجة مع كل تصرف قد يُخل بكل بناء للدولة والحكم!
ولا أظن أن الكثير من الطغاة في القرن العشرين كان لهم أمير مكيافلي نموذجاً حرّاً ومقدمة مثالية إلا من أُوتي حظاً من التعليم والاطلاع فجعله عصى يتكأ عليها في جشعه وطمعه وفرصة تكون إستراتيجية يبني عليها آماله وطموحاته وإن كان يعلم أن ميكيافلي لم يكن يقصد هذا العالم الذي ابتدعه بزخرفته الدكتاتورية!
** **
- زياد السبيت