بدأت في الأسبوع الماضي موضوعًا عن هاجس الكتابة، تركت فيه الباب مواربًا لسلسلة من المقالات لتأتي متى ما نضجت الأفكار حولها وعنها.
وقد لاحظت أن هذا الهاجس يحضر ويغيب على فترات متقطعة، ولاسيما بعد ارتباطي بمواقع التواصل الاجتماعي كـ(ساردة حكّاءة)، تزج بما عندها كيفما اتفق؛ ليتلقفه الأصدقاء كلّ بوعيه فتفيد من صغيرهم قبل كبيرهم في معرفة مستوى أفكارها ومدى مناسبتها للمألوف من عدمه.
عندما بدأت الكتابة كمتنفس لا احتراف لم أكن أكترث بتفقد حروف غيري كأنداد, بل كأصدقاء همّ يُحكى, أو فكرة طارئة تُلقى، نتشاركها معًا في جو حميمي متناغم, حتى بدأت هذه العوالم تقربني أكثر فأكثر من الكتاب وما يكتبون.
فأصبحت أحضر اللقاءات التلفزيونية والصحفية لبعضهم, هذا غير من يجمعني بهم معرفة؛ فبدأت أتنبه لمسألة يرونها ميزة, وأراها بغير العين التي يرون بها, أعرضها هنا عزيزي القاري كنوع من التفكير بصوت مقروء.
أكثر من كاتب (شاعر وسارد) يؤكدون على أنهم حين ينهون عملهم الأدبي يعرضونه على من يعرفون من الأصدقاء المرموقين جدًّا في فنهم, فيعرضون عليهم ما كتبوا قبل نشره, فيُعدّل الكاتب ما يُعدّل وفق وجهة نظر ذلك الصديق الكاتب, أو الناقد؛ ثم ينشر بعد أن يكون قد اطمأنّ إلى أنه قد أسند ثقته إلى ظهر مكين.
هذا الظهر المكين بقوة حرفه, وبخبرته, ووعيه قد أضاف إضافات تصبّ في مصلحة العمل الأدبي, والرفع من قيمته بلا شك, فيظهر العمل كاملاً مكملاً، ويحصد ثناءات تُجيّر للكاتب, ويغيب فيها صوت الظهر المكين, ومن هنا تبدأ معضلة النقد!
عندما يخضع الناقد تلك النصوص المُعدّلة سلفًا بفكر وأسلوب غير أسلوب صاحبها, وتُستخرج السمات الفنية لدى الشاعر فُلان, والكاتب علّان في أعماله, ويُقال: إنّه قد تراجع في نتاجه الثاني أو تقدم, أو كان أكثر تشويشًا, أو عمقًا من ذي قبل.
أيّ حكم من هذه الأحكام الخاضعة للجنة استشاريّة مُغيّبة عن العمل الأدبي لا يمكن أن تجعل النقد يقوم بعمله بمصداقية عالية, وستجعل الأعمال في أسلوبها مستنسخة فلا تجديد, ولا تحديث في الحقبة الأدبية.
كنت دائمًا أربط بين الكاتب وما يقول إذا التقيته وجهًا لوجه, وكم كنت أتعجب من البعض حينما لا يستطيع أن يوصل بعض أفكاره في جلسة طويلة, فمن يتعثر بجملتين كلما تحدّث بلا طلاقة تشبه ما يكتب, أو رد ردًّا لا يشبه وعي ما يقول بين سطور عمله الأدبي الجيّد, أستظلُ حينها بألف علامة استفهام مربكة, لقناعتي التّامة بأنّ الكاتب العملاق سيظل عملاقًا سواء كتب, أو نطق؛ حتى ولو كان خجولاً في مواجهة الجمهور, فالخجل لا علاقة له بأفكارنا التي نؤمن بها ونتحدث عنها.
هذه القضية -وإن بدت مستهلكة لا يكترث لها أحد- أجد أنها لا بد أن تؤخذ بعين الاعتبار في متابعة أفكار الأديب على امتداد مراحله.
لذلك ما زلت مناضلة في فكرة سابقة لي، سأظل أرددها حتى ننعم بحقبة أدبية نقدية، لا نكون فيها نسخًا مكررة:
على الكاتب أن يكتب ما لديه بأسلوبه وأفكاره, وليس عليه أن يبخرها ببخور غيره لتفتن! وعلى النقد أن يستحدث النظريات التي تواكب اختلاف الأساليب التي يُكتب بها أدب أية مرحلة.
النقد يحيا وينمو، وقد يتطور أو يموت, وأقرب مثال على ذلك أن الشعر لو ظل بسماته من العصر الجاهلي كالوقوف على الأطلال ومدح الراحلة والتغزل بالمحبوبة, وعلى نهج القصيدة العمودية، ما عرفنا الموشحات التي لاقت صدى في زمانها، وما زالت.
على الكاتب أن يكتب دون خوف, وعليه أن يستقبل الآراء بعد نشره ما كتب وليس قبل نشره!
ليتمكن النقد من رسم سمات التحول في عصور الأدب؛ حتى لا نظل متشابهين فيما نكتب.
** **
د. زكيّة بنت محمّد العتيبي