أ.د.سليمان بن عبد الله أبا الخيل
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فلا يفتأ المتأمل في الأحوال والظروف التي مرت بها بلادنا المباركة ووطننا العزيز المملكة العربية السعودية من استهداف قوى الشر والضلال، والفساد والإفساد، والانحراف والدمار لوطننا الغالي المملكة العربية السعودية بمكوناته، واستهداف فئة جعل الله قدرهم أن يكونوا حماة الدين والوطن، وحراس الأمن، والأعين الساهرة التي يكتب الله بها الخير والفضل، والأمن والأمان، وتحقيق التطلعات، وحماية المقدرات والمكتسبات، إنهم جنودنا البواسل، ورجال أمننا في كل الثغور، ولعظم أثرهم وعلو مكانتهم استهدفتهم أيدي الغدر والخيانة وأرباب الشر والإرهاب وأتباع الجماعات والتنظيمات الإرهابية في مواطن المسؤولية، ومرابع العز والشرف، وميادين البطولات والتضحيات، فكانت تلكم الأيادي الخاسرة الآثمة المجرمة التي تحاول زعزعة الأمن، وتحقيق أهداف الأعداء الظاهرين والمستخفين من خلال استغلال الفرص، واقتحام مراكز الأمن، ورغم مصابنا بما حل ويحل بهم، وألمنا الشديد حينما نفقد أحدهم، وتأثرنا بهذه المصائب مشاركة لهم بالمشاعر والشعور إلا أن المسلم والمواطن ينظر من خلال مجريات الأحداث إلى مواطن الفأل والعزيمة، ومعالم التمكن من الفتن المتلاحقة بإذن الله، وهذه دلالات أكيدة على أن هذه البلاد محفوظة بحفظ الله، محفوفة بعناية الله ورعايته، وأن من أسرار ذلك الثبات على الأسس والمبادئ التي قامت عليها هذه الدولة المباركة -زادها الله تمكينًا-، ولقد مرت ببلادنا أحداث متوالية، وفتن متلاحقة، عصفت بشبابنا، ووجهت إلى مقومات أمننا، وأسس وحدتنا، واكتوى بلظاها أبناء هذا الوطن الآمن، واستهدفت مظاهر الصلاح والإصلاح، وكافة مكونات المجتمع، وكان آخرها -قطع الله دابرها- استهداف نقطة الأمن من الحرس الملكي في قصر السلام بجدة، ولكن خابت مساعيهم، وباءت محاولتهم بالفشل والخسران، يرومون بهذه الأعمال استهداف الأمن والأمان، ويخدمون أعداء الدين والوطن، ويقدمون لهم هذه الخدمة الشيطانية في تحقيق مآربهم، والسعي للتخريب والتدمير وإهلاك الحرث والنسل، ولا أدل على ذلك من الدماء التي سالت، وشهداء الواجب الذين سقطوا دفاعًا عن هذا الوطن العزيز، فاللهم آجر أسرهم في مصابهم، وتقبلهم في الشهداء، فكان لابد من مواقف حاسمة، تقضي على هذه الفتنة، وتحسم أثها.
وكان الموقف النبيل الشهم، والتقدير الواجب، والوفاء المعهود، والإشادة التي تختصر كل معاني الوفاء، والتقدير لمنجزات من ضحوا بأنفسهم دفاعًا عن هذا الثرى الطاهر، من ولاة أمرنا، وعلى رأسهم مليكنا المفدى ملك العزم والبطولات، والحكمة والمنجزات العظمى، وهي مواقف مشهودة، ووقفات معهودة، تضمد الجراح، وتواسي المصابين، وتشعرنا بالفخر بأن مجتمعنا على قلب رجل واحد، وأن ألم المصائب مستشعر من ولاة أمرنا وهم أسوة الجميع، وفي خضم هذه المواقف التي يرفع المواطن بها رأسه، ويستشعر بها أجواء اللحمة والحميمية، من هؤلاء الحكام الحكماء، والقادة الأوفياء، موقف ولي العهد الأمين، والعضد القوي والساعد الأشد، رجل البطولات والتحولات، وحكيم الشباب، ورائد المنجزات العظمى، التي حقق بها حلم الوطن، إنه سليل المجد، وحفيد العظماء، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود - حفظه الله-، حين هاتف ذوي الشهداء الذي ارتقوا عند ربهم في حادثة الغدر في استهداف قصر السلام بجدة معزيًا مبشّرًا مهنئًا متوعدًا بأخذ الثأر: «أنا واحد من عيالك، وثار ولدك عندي بآخذه من كل إرهابي ومتطرف»، الله أكبر! ما أعظمها من كلمات صدرت من مؤمن قوي، حازم تقي، برّ وفيّ، يقول ويطول، ويتوعد فيوقع ما هدد به، مستشعر للمهددات، ملم بالمتغيرات، قائم بالمهمات، تحمل عباراته هم وطن، وحلم مواطن، ومسؤولية شعب، تختصر عباراته المسافة بين الحاكم والمحكوم، والراعي والرعية، ليتجسد من خلالها أسمى صور الرعاية والعناية والتواصل والتفاعل، مما يجعل الكل في هذا الوطن يستشعرها نعماً عظيمة وصوراً مثالية، سداها اللحمة، وإطارها الوفاء، ومعتضدها أمر الله وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم.-.
إن مثل هذه الإشادات والإشارات من رمز الوطن وقائد قوات الدفاع لهي معالم أكيدة ودلالات ظاهرة على ذلك الهم الذي يحمله ولاة أمرنا الأوفياء، وقادتنا الميامين لكل مواطن بل كل فرد على هذا الثرى الطاهر، فكيف بمن نذر نفسه للدفاع عن العقيدة وعن وطن المقدسات، والتضحية في سبيل ذلك، والقيام بما يتطلبه الواجب في هذا السبيل من رجال أمننا الأشاوس، وأبطالنا الأوفياء، وما من شك أن الدفاع عن الأوطان تفعله النفوس السوية دون تردد، وتقدم عليه بدافع غريزي فطري، يتعزز بالأبعاد الشرعية كونه دفاعًا عن عقيدة ومقدسات وحرمات، وحماية للمكتسبات والمنجزات، وكونه من ضرورات الحياة، وما يقوم به رجال الأمن من هذا القبيل، وهم فئة عزيزة جعل الله قدرهم ومهمتهم هذا الشأن العظيم، يقدمون الغالي والنفيس في هذا السبيل، ويستشعرون عظم الأمانة عليهم، مستشعرين أن محبة الوطن غريزة متأصلة في النفوس، والدفاع عن الوطن جبلة جبل عليها الإنسان، وهذا الحق من الحقوق الطبيعية الأصلية التي يشرع الدفاع عنها، فالإسلام شرع للإنسان أن يدافع دون ماله ونفسه، وذلك يلزم منه الدفاع عن وطنه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد»، ولا يتصور هذا الدفاع إلا إذا كان له وطن يحبه ويدافع عنه.
وهذه الجوانب الغريزية، والدوافع الضرورية تجعل الدفاع عن الأوطان دفاعًا عن أمر ضروري ترتبط به الضرورات الخمس المرعية في كل ملة، وهذه الضرورة شرع ما يكملها ويحميها من جانب الوجود ومن جانب العدم، كما ذكر الإمام الشاطبي في الموافقات، حيث يقول: « تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون ضرورية، والثاني: أن تكون حاجية، والثالث: أن تكون تحسينية، فأما الضرورية فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين، والحفظ لها يكون بأمرين، أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود، والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم... ومجموع الضروريات خمسة، وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وقد قالوا إنها مراعاة في كل ملة»، وتكييف ذلك على الدفاع عن الوطن كواجب عظيم: أن الحفاظ على الضرورات واستكمالها وبقائها وحمايتها لا يتم إلا بتصور الوطن والدار التي تتم فيها، لا من باب الوسيلة وإنما من باب اللزوم فيعد الدفاع عن الوطن واجبًا شرعيًا من جهة ملازمته للضرورات، ولهذا الموقف ما يسنده من هذه الزاوية المقاصدية، إضافة إلى ما ورد من نصوص في ذلك، وهذا من حيث كونه وطنًا لا تتعارض محبته والدفاع عنه مع ضرورة الدين، فكيف إذا انضاف على ذلك خصائص وميزات تجعله واجبًا شرعيًا، وجهادًا في سبيل الله، ودفاعًا عن مقاصد ومعالم هي من إعلاء كلمة الله، ويصدق عليها قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»، ولذا فإنه يتقرر في شأن وطن المقدسات وبلد الإسلام ومأرز الإيمان المملكة العربية السعودية أن الدفاع عنها دفاع واجب، بل من أوجب الواجبات، وجهاد في سبيل الله، والقصد فيه مقصد شريف، إذ أنه رد للمعتدين، وصد للباغين، من الاعتداء على هذا البلد الأمين، وحفظ للدين بالقصد الأول لأن بلدا هو وطن الرسالة، ومهوى الأفئدة، وقلب العالم الإسلامي وقبلته، ومتطلع كل مسلم لايمكن أن يهون من شأن الدفاع عنه منصف، ولذا لاشك في أنه من تحقيق غرض الجهاد بإعلاء كلمة الله فمن هذه النظرة هو صورة من صور الجهاد المشروع الذيينال به الجندي والمرابط على حدوده وأمنه فضل الجهاد وثمرته، لأن كل هذه المقاصد معتبرة فيه، فهو جدير بأن يكون عمله لتكون كلمة الله هي العليا، وقد قرر علماؤنا وأصّلوه وبينوه ووضحوه ليكون مستبطناً لدى جنودنا، ويستشعرون به ما اختصهم الله به وحباهم من انضمامهم إلى مواكب البطولة والشرف، وميادين العز والجهاد، يقول شيخنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله -: موضحًا حكم القتال دفاعا عن الأوطان: «قوله: «في سبيل الله» -في حديث: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»، ضابطه: أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فقتاله وطنية وقصد منه حماية وطنه لكونه بلداً إسلاميا يجب الذود عنه، فهو في سبيل الله، وكذلك من قاتل دفاعًا عن نفسه أو ماله أو أهله»، وقال أيضًا: « يجاهد أعداء الله؛ لتكون كلمة الله هي العليا، فالمسلم يدافع عن دين الله، فيدافع عن وطنه؛ فيدافع عنه حماية للإسلام الذي حل في هذا البلد»، فخلاصة كلام شيخنا -رحمه الله- : أن المقاتل دفاعًا عن وطنه لأنه وطن إسلامي، حينئذٍ يكون دفاعه جهاداً في سبيل الله؛ لأنه يقاتل دفاعاً عن الإسلام، وخوفاً من أن يستولي على البلاد أهل الفساد والانحراف أو غير المسلمين فتكون العواقب وخيمة، فمن قاتل من أجل إبقاء الإسلام الذي هو دين وطنه صار مجاهداً في سبيل الله، وهذا لا ينافي الدفاع عن الأوطان مطلقًا، لأنه كما قال يكون من الجميع، فيعد من القيم المشتركة كون الأوطان محل الدفاع، ويقول سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: «التعاون مع رجال الأمن يعتبر من الجهاد في سبيل الله لمن أصلح الله نيته، وهو من الرباط في سبيل الله، لأن الرباط هو لزوم الثغور ضد الأعداء، وإذا كان العدو قد يكون في الباطن واحتاج المسلمون أن يتكاتفوا مع رجال الأمن ضد العدو الذي يخشى أن يكون في الباطن، يرجى لهم أن يكونوا مرابطين، ولهم أجر المرابط لحماية البلاد من مكائد الأعداء الداخليين».
ومن هنا فإن حق من قضوا من أبطالنا على الحدود أو في المواجهات مع المفسدين الذين يرومون الفساد والضلال أن نساندهم بمثل هذه المواقف، وبالدعوات الصادقة، وقدوتنا في ذلك ولاة أمرنا وقادتنا الأوفياء، وعلى رأسهم مليكنا المفدى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -أيده الله وحفظه-، وعضده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، -أدام الله عليهم نعمه، وأسبغ عليهم فضله، وأجزل لهم الأجر والمثوبة- فيما يقدمونه لرعيتهم، سيما أسر شهداء الواجب، من واجب العزاء وتخفيف المصاب، فالحق أنها رعاية تجسد صورة مثالية لأبناء هذا الوطن ليتأسوا بولاة الأمر، كما أنها تمثل صورة التلاحم الفريد بين أبناء هذا الوطن رعاة ورعية، بما يحقق قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- : «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم»، ولذا كان لهذه الرعاية أعظم الأثر في تخفيف المصاب، وتحقيق المواساة، وتعويض أسرة الشهيد بما يواجهون به مصاعب الحياة، وقد حملت كلمات الأمير الشهم، والرجل الوفي موقف المملكة من أولئك الذين يقفون وراء هذه الأعمال، فهذا أوان الحزم، ونحن في هذا العصر رأينا من ولاة أمرنا ما يسر الخاطر، ويثلج الصدر من مواجهة التيارات والتنظيمات والجماعات التي هي منبع هذه التصرفات والفساد والإفساد، ولا يمكن الفصل بين السبب والنتيجة، والأصل والمثال، والقاعدة والتطبيق، وفيما أعلن من دولتنا في مواقف كثيرة شاهد على ذلك، وقد عكست رؤية سمو ولي العهد عن التصدي لكل الدول والتنظيمات التي تصدّر الإرهاب وتدعمه، ومن ذلك حديثه عن إيران، تلك الدولة المجوسية الخبيثة، الراعية للإرهاب والإرهابيين، المصدرة للخراب والدمار والمرتزقة، الحاقدة على العرب المتحالفة مع أعداء الإسلام، فلا مجال للتهاون والتخاذل مع من يريد النيل من أمن وطننا الغالي وعقيدة أبنائنا المخلصين، وتصدير ثورته الخمينية الآثمة، ومد النفوذ الصفوي الخبيث تحت غطاء نشر المذهب الجعفري الإثناء عشري بعقائده الفاسدة المفسدة، وكذلك حديثه عن تنظيم جماعة الإخوان المسلمين التي تروم تفرقة البلدان، ومحاربة مظاهر الصلاح والإصلاح، وما يتبعها من تنظيمات إرهابية وجماعات حزبية، فهذا التنظيم والجماعة الخطيرة رأس تلك الجماعات والأم التي فرخت التنظيمات الإرهابية، وكان لمبادئها وأفكارها التي تعاهد منظروها (الإخونج) على أن لاتظل مجرد أفكار، بل سيقدون لها ما استطاعوا، ويحولونها إلى خطط عمل، فهم وراء الأزمات التي تعيشها دول المنطقة، يحركون الفتن بكل وسيلة، لأنه لا يحكمهم مبدأ، ولا يمنعهم معتقد، فالغاية تبرر الوسيلة، وقد يجتمعون مع اختلاف الأفكار والأيديولوجيات إذا توحدت الغاية السياسية، وقد رأينا حربًا مباركة على مظاهر الفساد وتياراته ومنظريه وأفكاره، واستهدافًا للجذور والمنابع، قطعًا لدابر الإرهاب والفتنة والفساد والإفساد، فالحمد لله الذي وفق ولاة أمرنا لهذا العطاء لأسر الشهداء، وتهنئة للوطن بهؤلاء القادة الأفذاذ والرجال الأوفياء ونسأل الله أن يعجل بالنصر المبين لجنودنا المرابطين وأن يحفظهم ويحفظ ولاة أمرنا ويسددهم، وأن يحفظ على بلادنا أمنها وإيمانها وولاة أمرها، وأن يجعل ما قدموه ويقدمونه في موازين حسناتهم، إنه سميع مجيب.
والحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.