د. عبدالحق عزوزي
مع الأحداث الصعبة والمعقدة التي تمر منها إسبانيا مع مطالبة أغنى جهة في إسبانيا، جهة كاتالونيا استقلالها التام عن الوطن الأم، بدأت الأصوات تتعالى في كل أنحاء أوروبا لإعادة النظر في الأنظمة الإدارية التي تعرفها دولها وإعادة النظر أيضا في التشريعات والقوانين التي تنظم المجال السياسي العام، وفي دروس المواطنة التي تعطى لأبنائها، وهو ما فشلت فيه طبعاً إسبانيا.
في هاته المقالة سنتوقف عند التجربة المغربية، وكيف نجح المشرع الدستوري في تجذير قواعد المواطنة واحترام كل الثقافات في ظل الدولة الموحدة.
وكل متتبع حصيف للشأن اللغوي في دول العالم سيخرج بقناعة أن التعدد اللغوي، لا يمس محتوى اللغة الأم، إذا كانت التشريعات تحفظ مجالات استعمالها وتضبط رسميتها بقوانين زجرية... والمغرب يعتبر من بين الأمم القديمة في العالم، بل وجد قبل أغلبية الدول الأوروبية والكثير من غيرها في القارات الأخرى. لهذا لا يطرح الانتماء مشكلاً لرعاياه. فضلاً عن ذلك، فالمحاولات الإجرامية للمستعمر بخلق التفرقة وسط الشعب وخاصة مع الظهير البربري لسنة 1930 والتي فشلت لحسن الحظ، يسمح لنا بالقول إن المشكل قد تم حله. فنحن نعلم أنه في هذا المجال، لا توجد تسوية للمشكل بشكل نهائي، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الحركية العامة في العالم والتي تحاول التصعيد من قوة مطالبها من طرف كل مجموعة، من أجل الحصول على اعتراف بخصوصياتها. ومهما كانت الدوافع، فإن ظهور الفصل 5 حول اللغات الرسمية في الدستور الجديد الذي صادق عليه المغاربة في يوليوز 2011 يمثل تجديداً عميقاً وتغييراً مهماً. ونعلم جميعاً ما للغة العربية من دور في جمع وتوحيد الصفوف المغاربية ضد المستعمر والشعور بالانتماء إلى الأمة العربية.
بعد التأكيد على أن «العربية تظل اللغة الرسمية للدولة» (الفصل 5)، وبعد التأكيد على ما يلزم الدولة من «حماية اللغة العربية وتطويرها وتنمية استعمالها»، تمت الإشارة بالتساوي إلى أن «اللغة الأمازيغية تمثل لغة رسمية للدولة باعتبارها تراثاً مشتركاً لجميع المغاربة بدون استثناء».
وكل كلمة في هذه الجملة الأخيرة تستحق تعليقاً، ونفس إلزامية التعليق ينطبق على الفقرات التالية. وسنكتفي بالإشارة إلى صيغة تراث مشترك التي تذكرنا بالصيغة التي استعملها حديثاً الفصل 75 من الدستور الفرنسي والذي يقدم اللغات الجهوية على أنها «تنتمي إلى تراث فرنسا» وهو أمر لا يضفي قيمة ولا بوعد بارز على مستوى مكانتها، غير أن الأمر مختلف بالنسبة للمغرب.
فهناك عرف دولي يقضي بأن كل ما يمس الأمة يجب أن يدخل في إطار الحفاظ على الوحدة. لهذا ففي الفقرة التالية التي تنص على قانون يحدد مراحل إضفاء الطابع الرسمي على الأمازيغية وطرق إدماجها في التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولويات، نسجل هنا الصيغة النهائية التي تنص على أن الأمازيغية يجب «أن تتمكن من القيام بوظيفتها باعتبارها لغة رسمية». فالمشرع الدستوري ينص لا محالة على الآجال الضرورية لذلك. ثم إن الفقرة ما قبل الأخيرة تفتح اتجاهات أخرى للسياسة اللغوية أي: الحفاظ على اللغة الحسانية «باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الهوية المغربية الموحدة»، حماية اللهجات والتعبيرات المستعملة في المغرب، إتقان اللغات الأجنبية الأكثر تداولاً في العالم، وذلك لأجل ثلاثة أهداف وهي التواصل مع مجتمع المعرفة والتفاعل معه والانفتاح على ثقافات أخرى. وقد انتهى هذا الفصل بالإعلان عن إنشاء المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية.
وموازاة مع ذلك، يعمل المشرع الدستوري جاهداً على إدماج هذا البعد الجديد للأمة بالتركيز على التلاحم الذي يجب أن يتولد عن هذا التنوع المقبول والجامع لوحدة الدولة. فـ»المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية - الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. كما أن الهوية المغربية تتميز بتبوؤ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، وذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء».
إذن في التجربة القانونية المغربية ليس هناك ما يثير أي تخوف من اختراق يمكن أن يقوض دعائم الثقافة والهوية، بل هناك نصوصاً دستورية قوية لا يعلى عليها في هذا الباب تناولناها بالتفصيل، ولكن المشكل في الإرث الاستعماري وفي العقول التي تصل بها الدعوة إلى التجرد في بعض الأحيان من الثوابت المتوارثة كما هو حال تونس. ونحن إذ نستغرب توجهاتهم لا يحملنا هذا الكلام على الدعوة لإزالة اللغات الأجنبية أو التموقع في خصوصيات محدودة... كلا وألف كلا.