د.فوزية أبو خالد
ورطت نفسي في المقال السابق الذي كان بعنوان، «قرار قيادة المرأة للسيارة والتآزر بين الدولة والمجتمع في صنع القرار» بوعد أرَّقني من لحظتها، وأرهقتني محاولة الوفاء به طوال الأسبوع، وهو الوعد ببحث السر الذي جعل القرار يتأخر ربع قرن، والسر الذي جعل قرار قيادة المرأة للسيارة يتطلب أن يكون قرارا سياسيا على المستوى القيادي للدولة وليس مجرد قرار مروري بسيط.
وقد اجتهدت هنا وليس كل مجتهد مصيبا، إلا أنني لا أطمع في أجر المصيب بقدر ما أريد فرصة التدريب على التأمل وفرصة التدرب على الأمل لي وللقراء. وأريد بطبيعة الحال سعة صدر من رئيس التحرير ومن الرقابة بما لا غنى عنه لأي وطن وخاصة في لحظة التحولات الحاسمة.
وإليكم محاولتي لقراءة قرار قيادة النساء للسيارة في بعده الوطني وليس في حيزه المروري وحسب.
إن السر في تأخر القرار بقيادة المرأة من اللحظة التي قرر فيها مؤسس المملكة - المغفور له - الملك عبد العزيز قبول تحدي إدخال وسائل التقنية الحديثة بما فيها السيارة لدولته ومجتمعه لا يمكن فهمه إلا في ضوء فهم طبيعة الخطاب السياسي السعودي، فتأسيس المملكة العربية السعودية كدولة مستقلة وموحدة وتأسيس خطابها السياسي تم بناؤه بتعاضد جدلي بينهما على عدة أعمدة معطاة ومنحوتة من طبيعة الحالة السياسية والاجتماعية لتلك اللحظة التاريخية.
ولو راجعنا أعمدة الخطاب السعودي في إطار تنظير علم الاجتماع السياسي لمفهوم الخطاب السياسي الذي لا ينظر للخطابات السياسية كمنطوق بل كمحددات موضوعية أو ذاتية أو الاثنين معا للفعل وللقول السياسي، بل ولأفكاره الناظمة في الأهداف والآليات بما فيها كيفياته وإيقاعاته التحولية، وبما فيها تحديد أدوار البطولات والكومبارس للفاعلين فيها والطبيعة الرأسية والأفقية لعلاقات السلطة، بما فيه العلاقة «الجندرية»، فإننا يمكن أن نجد أن الخطاب السياسي السعودي قد قامت سلطته على السلطة الملكية السياسية مدعومة بعدة أعمدة أساسية من أعمدة القوة السياسية التي شكلت فيما بينها وعبر وظائف كل منها قوام شرعية الحكم السعودي من ناحية وقوام صناعة المجتمع السعودي الوليد في أحضان المملكة العربية السعودية في اللحظة التاريخية للتأسيس المحددة رسميا بعام 1932م.
لقد خرجت المملكة العربية السعودية على الركام السياسي والعسكري لما بعد الحرب العالمية الأولى ككيان جغرافي موحد، وكتكوين قبلي متراضٍ ومتحالف مع أسرة آل سعود، وكدولة مستقلة في التاريخ المعاصر من القرن العشرين بالتأسيس للدولة السعودية الثالثة كسلطة سياسية ملكية مستقلة ومعاصرة في لحظة تاريخية متلبسة بالتقسيم الاستعماري الخارجي وبتشظي الولاءات وبانحلال الانتماءات القديمة. وقد تم تأسيس سلطة هذه الدولة الفتية كملكية على مجموعة من أعمدة الأساس التي لم تعطها هويتها فقط، بل أعطتها ملامحها في الاستقرار وفي التحولات كلما ضغطت عليها سُنَّة التغير في كل اجتماع بشري.
وفي هذا يمكن للمتابع أن يرى المكانة المفصلية التي احتلها غياب النساء التاريخي عن الفضاء العام. وربما أن ذلك كان مثله مثل طبيعة الحكم الملكية ومثله مثل العلاقة بين المؤسسة السياسية والمؤسسة الرسمية للإفتاء، ومثله مثل موقع النفط في تحديد طبيعة العلاقة الرعوية بالمجتمع وطبيعة الدولة الريعية من العوامل التي اتخذت شكل الثوابت في بنية الدولة والمجتمع، وفي تشكيل الخطاب السياسي الموجه لحياة المواطن الفردية والمنظم لحياة المجتمع. وقد يكمن السر أيضا في النظر إلى الفصل المعيشي اليومي بين مجتمع الرجال ومجتمع النساء من فضاء البيت إلى فضاء العلم والعمل والفضاءات العامة كافة، كالشارع، المستشفى والأسواق باستثناء فضاء الحرمين, كجزء عضوي أيضا مثله مثل غياب النساء من مكونات ملامح الهوية السعودية. وذلك مع احتمال بأن يكون تضافر غياب النساء ووضع المجتمع في عالمين منفصلين داخل بنية الخطاب السياسي الرسمي قد شكل عاملا فعالا وجدليا في صناعة الدولة وجهازها التنفيذي، وفي صناعة المجتمع السعودي، لتصبح تلك المحددات مصدرا من مصادر الشرعية للدولة ومصدرا من مصادر إسباغ حق الانتماء وواجب الولاء على المجتمع.
وإذا كان قد جرى في مشروع تعليم البنات الذي يعتبر من أوائل التحديات التي واجهت غياب النساء في الخطاب السياسي السعودي باحتواء عملية التعليم برمتها وفقا لشروط الغياب وبعدم تجسيد حضور المرأة في الفضاء العام, فإن دخول المرأة لسوق العمل قد شكل قرارا لا يقل تحديا عن تحدي التعليم. ولم يكن البحث في إجابة السؤال كيف تعمل المرأة وهي غائبة أقل صعوبة من الإجابة الاحتوائية لسؤال كيف تتعلم البنات وهن غائبات عن الخطاب السياسي وعن المشهد العام، بما جعل تعليم البنات لا يقوم إلا تحت إشراف هيئة الرئاسة العامة لتعليم البنات، وهو تعليم مخفور خلف الجدران بإشراف رجالي وديني صارم. وقد جاءت الإجابة في مجال عمل المرأة على حساب تقليص مجالات العمل أحيانا، وعلى حساب تطور المرأة الوظيفي أحيانا رغم المساواة في الأجر التي لم تمنع عدم المساواة في الامتيازات، وعلى حساب تقليص أعداد الملتحقات بعمل ممن هن في عمر العمل وتوسيع رقعة البطالة وتأنيث الفقر، وبخلق عالمين منفصلين في بيئة العمل الواحدة، من مهنة الصحافة إلى العمل البنكي.
ولا يفوت المتابع والمتعايش مع الواقع استحضار الصورة اللا مرئية التي كان على المرأة السعودية أن تتحلى بها حين تضطر أو يتاح لها التواجد في فضاء عام لتبقى النساء لا مرئيات خارج فضائهن البيتي مثلما هن داخله، وذلك للتأكد من أن أي تغيير في علم المرأة وعملها لن يحتاج إلى تغيير لا نظرة ولا شروط المجتمع السعودي وخطابه السياسي المؤسس في تحديد مكانة المرأة وموقعها فيه ومنه.
أما التحاق المرأة بالعمل في القطاع الصحي فقد شكل استثناء في الإخفاق لإخفاء حضور المرأة من مسرح العمليات ربما لتعذر شطره ميدانيا إلى عالميين منفصلين تماما، إلا أن عدم استطاعة الفصل الميداني بين عالم طبي للرجال وآخر ملحق به وتابع له للنساء قد شكل إرباكا لمطلب الغياب، ربما عكست صورة المرأة الطبيبة في رواية الوارفة لأميمة الخميس واقع الحال الذي كانت تحضر فيه المرأة في مجال العمل الطبي حضورا مسربلا بالتخفي, كـ «مغاتير» العروس في تقاليد بادت.
ولكل ما تقدم من اعتبارات ميدانية وثقافية وأيديولوجية في صلب الخطاب السياسي للدولة وفي بنية المجتمع وفي تجاذب قواه الاجتماعية المخضرمة والشابة وفي تشتت مشاربه بين التشدد وبين الانفتاح، كان في حكم المستحيل أن تتحقق قيادة النساء للسيارة ما لم يكن هناك تغيير لموقع النساء في الخطاب السياسي وتغير ولو نسبي في الواقع الميداني للمجتمع ولموقع المرأة فيه على صعيد تشريعي ولوجستي، بما ينقل مواطنة النساء من موقع الغياب لموقع الحضور. هذا وإن أعطيت نحوه تراكميا بعض المؤشرات الإيجابية فإن الأمر لم يخل من المراوحة بين الإقدام والتراجع والإحجام.
على أن مثل هذه النقلة لها شروط تتطلب تجاوز الحلول الاحتوائية في مثال التعليم والعمل التي تعهدت تاريخيا بالمحافظة على بنية خطاب سياسي يقوم على غياب النساء وعلى فصل المجتمع فصلاً كمجتمع رجال ومجتمع نساء تابع وملحق وتحت الوصاية.
هل هذا يعني أن الخطاب السياسي اليوم يتغير ليفتح الوطن فضاءه العام لحضور النساء بإعادة الاعتبار للمرأة كمواطنة كاملة الأهلية، هذه هي الثقة وهذا هو الرهان وهو التعبير العملي عن السر في أن تستدعي قيادة المرأة للسيارة قرارا سياسيا. فتلك النقلة لم تكن تتحقق بدونه ولم يكن لسجالها أن يحل بمجرد قرار مروري. فالسر في حقيقة الأمر هو أن التحولات الوطنية الكبرى وإن كانت رمزيتها قضايا يومية بسيطة كمثال قيادة النساء، فهي تحتاج لتراكم معرفي وميداني على مستوى تجربة العلاقة بين الدولة والمجتمع وعلى مستوى شجاعة إحداث تطورات نوعية في الخطاب السياسي، بما يحتاج لتلاحم وطني ومشاركة فعّالة بين النساء والرجال وبين أطياف مكونات النسيج الاجتماعي وبين النظام السياسي. وكل ذلك لا يتحقق بدون دربة الصبر ومهارة الأمل ويبدو أن الكثير من مقومات تلك الخلطة السرية كانت في هذه اللحظة التاريخية ببعدها الوطني والإقليمي والدولي قد توافرت تحت يد صانع القرار الملك سلمان والأمير محمد فصنع وأبدع.