د. حسن بن فهد الهويمل
قلت، وأنا متأكد من صحة ما أقول:- إن أزمة أمتنا العربية: أزمة حكام، وأزمة وعي.
فأزمة الحكام صنعتها «اللعب الكبرى» التي توسلت بالفراغ الدستوري، على يد الانقلابات العسكرية، التي سُمِّيَتْ زوراً، وبهتاناً بـ[الثورات]، وماهي بثورات، فالثورات لها فلسفات، وخطابات، ورؤى.
هذا العنف المسلح أسقط الحكومات المدنية، ذات القوة المتينة الناعمة، وأقر أنظمة عسكرية، مُسْتَبِدَّةٍ، ظالمة، مالها من قرار.
ولهذا تقوم علاقتها بالشعوب المغلوبة على المقاصل، والمنافي، والسجون، وضرب الرقاب. وصوتها دوي المدافع، وصليل السيوف.
والانقلابيون في النهاية يأكل بعضهم بعضاً. ومامن انقلاب عسكري إلا وأمره في سفال، يشهده الفاعل الغاشم، والمفعول به المغلوب على أمره. وفقاعة لون المآسي لاتخفى على أحد منها خافية.
لقد توسل العسكريون بالغوغاء المغفلين، يُلْهبون عواطفهم، ويحرضونهم على المظاهرات، وإفساد ما أصلحته الحكومات المدنية.
لقد غرسوا في نفوس الدهماء كره تلك الحكومات، ووصفوا الحكام بالعملاء، والرجعيين، واللصوص، والمتخلفين.
ووصفت عهودهم بالضعف، والجهل، والتمكين للمستعمر. وتقبلت الدهماء ذلك كله. واندفع الغوغائيون تحدوهم عواطف الكره لرموز أمتهم، وبناة تاريخها النضالي.
ولأن ذاكرة الشعوب مخروقة، ووعيها مفقود، فقد نسوا مامرَّ بهم من مآسي، أوردتهم موارد الهلكة، وجعلتهم ينقبون عن أسباب وهمية، والأسباب بادية للعيان. والتاريخ شاهد عدل، لايحابي، ولايجامل.
لقد كشف التاريخ عن إيجابيات الحكومات المدنية، وهي إيجابيات رغم مايشوبها مشرفةٌ بوثائقها الدامغة.
لن أتحدث بالتفصيل عن [مصر] في عهد الملكية، التي مافتىء الإعلام يُمعن في تجريمها على كل لسان، حتى لكأنها الشر المستطير.
لقد كانت [مصر] الملكية على ثراء استرفده زعماء الغرب، وأسال لعابهم. وعلى وِحْدَةٍ تشكل [مصر]، و[السودان]، و[دارفور].
وعلى هيبة لايجرؤ أحد على النيل منها، وإن كانت على وفاق مع المسْتَعْمر الذي يغالب الأحزاب، والمظاهرات، ويداري في تصرفاته.
لقد كانت [القاهرة] بإمكانياتها المتعددة، وجمالها الباهر عشق [الأوربيين] كانت منطقة جذْب، يفد إليها الأوربيون للعمل، والكسب، والسياحة، فيجدون مايملأ جيوبهم بالمال، ونفوسهم بالأنس.
وكانت [بغداد] بثرائها، وقوة نظامها، ونجاح تعليمها، وصرامة حكمها، واحتواء أطيافها، وطوائفها مضرب المثل في [العهد الملكي]، تمدُّ العالم بالمال، والقمح، والتمور. وتأتمر مع الكافة بندية، وأهلية، وحرية.
ولك أن تقول بعض ذلك، أو فوق ذلك عن [ليبيا]، و[اليمن]، وسائر الحكومات المدنية، التي أطاحت بها الانقلابات العسكرية، وصارت كما هي الآن، لاتسر الصديق.
وأحسبني في غنى عن الشواهد. لأنها حقائق دامغة، لاينكرها إلا مغالط.
وحتى الذين ثاروا على حكامهم العسكريين الظلمة، وأسقطوهم، يتمنون أنهم مافعلوا فعلتهم الشنعاء.
لقد أضاعوا بهذه الفوضى الهدامة رسيس الأمن، والاستقرار، والرخاء. وتحول زعيم كل طائفة إلى طاغية يَتَشَفَّى بالقتل، والتدمير، والتشريد. ويبيع الأوطان ثمناً للكراسي الزائلة.
وكل ماهو قائم من تفرق، وقتل، وهدم إن هو إلا ناتج غياب الوعي، وحضور اللاعب الماكر.
ولمَّا تزل وسائل الإعلام المأجورة تزيف الوعي، وتضل الرأي العام بخطابات حزبية، ومذهبية، وطائفية، وعميلة.
والناتج الطبيعي لغياب الوعي القتل، والتشريد، والإخراج من الديار، واختلال الأمن، وفقد الاستقرار، وتغيير التركيبات السكانية، وقيام الحكومات الطائفية، والعرقية الممقوتة حتى من أبناء الطائفة الحاكمة، التي لم توفر لهم أدنى حد من الأمن، والاستقرار.
ولو أن المتصدرين للزعامات الوطنية صبروا، وصابروا، وعالجوا أوضاعهم من الداخل، وحملوا حكامهم على مافيهم من نقص على العدل، والإحسان بالتي هي أحسن، لكان خيراً لهم. فالسلطات المتعاقبة ظلمات بعضها فوق بعض.
أمتنا العربية تتمزق بفعل أبنائها، ومكر أعدائها. وهي قد تمزقت من قبل بفعل المستعمر، وكان لأبنائها يوم ذاك مواقفهم النضالية، التي خلدت ذكراهم، ورفعتهم إلى مصاف الأبطال العظماء.
والمستعمر بكل ماهو عليه من قوة، ومكر يتطامن أمام ضربات المقاومة، وحين خرج مُكْرهاً خَلَّفَ العملاء، والمأجورين، والمغفلين الأغبياء.
فمن منا يجهل كفاح [الجزائر] ضد الفرنسيين. ومقاومة [ليبيا] ضد الإيطاليين، وسائر الدول العربية التي مُنيت بالاستعمار التقليدي، الماثل بـ [ثكناته]، و[مناديبه]، و[عملائه].
هذا الواقع المتردي مَيَسَّرٌ لمن ألقى السمع، وهو شهيد.
- فهل من مدكر..؟
ثورة الاتصالات، والتقنية المذهلة كَشَفَتْ عن إغثاء، وغثائية، وتسطح في المعلومات، وضحالة في الوعي.
لقد فتحت تلك الموبقات شهية أعداء الأمة، لمزيد من الاستدراج، والتضليل.
إنها في النهاية سياسات خرقاء، ووعي مفقود. شعوب مزقتهم الفتن، وشردتهم الأهواء، وأضلتهم خطابات الزيف.
وكيف لانتوقع الأسوأ، وفينا سمَّاعون، يصدقون الشائعات، ويروجون المفتريات، وجهات الاختصاص في بلد متميز كـ[المملكة العربية السعودية] تغالب التافهين، وترصد مئات الآلاف من المواقع السيئة، لحجبها، ومحاسبة ذويها الأغبياء.
وكيف لانصدق بغياب الوعي، وكل قرار تتخذه الدولة ينبري له المعارض، والمتهم، والساخر.
حتى لقد بلغت تلك المواقع بهذه السفاهة الدرك الأسفل من الضِّعْة، والضياع، والصفاقة، والحماقة.
وكل عاقل يفر إلى الله بهوانه، وضعفه، وقلة حيلته، إذ لم يعد بالإمكان احتمال مزيد من التردي في حبائل الأعداء.
بلادنا بفضل الله لمَّا تزل بخير، لم تدنسها أقدام المستعمر. ولم تَزِلَّ قدمها مع من زلت أقدامهم في الانقلابات العسكرية. ولم تجتاحها فوضى [الربيع العربي].
وستظل إن شاء الله محروسة بعينه التي لاتنام، وبعزه الذي لايضام. ولكن الخيرية ليست إرثاً، أوتيناه على علم، وليست سجية لانحيد عنها.
إنها مكتسب معرض لكل الاحتمالات السيئة. فما نراه، وما نسمعه من لغط مخيف، وغير مسؤول، نذرٌ لمن حنكتهم التجارب.
فهل من مدكر؟
يتبع...