د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
«شر مطلق»، هكذا وصف الرئيس الأمريكي مذبحة لاس فيجاس التي ذهب ضحيتها - حسب الصحافة الأمريكية - 58 قتيلاً، وما يزيد على 500 جريح. والعدد الحقيقي لقتلى المذبحة 59 قتيلاً إذا ما حسبنا أن القاتل ستيفن بادوك قتل نفسه أيضًا، ومعها أسرار هذه الجريمة المروعة. أما الإعلام الأمريكي فسارع للإعلان أنه مع هذا العدد المهول من الضحايا ليس هناك ما يدل على أنه عمل إرهابي!!! فمن شروط العمل الإرهابي - على ما يبدو - أن يكون مرتكبه مسلمًا بالضرورة، أو شخصًا على صلة بمسلمين؛ لذا لم يتطرق الرئيس للون القاتل ولا عرقه ولا ديانته ولا ميوله الفكرية، ولم يتوعد - كما يفعل عادة - مَن قد يكون وقف معه أو مَن موله، أو مصدر هذه الترسانة من الأسلحة. وَصْفُ الرئيس الأمريكي للجريمة بهذا الشكل المبسط له جذور دينية مسيحية؛ إذ ينظر المسيحيون الأصوليون للأمور بثنائية الخير والشر، ويرون الخير والشر قدرًا إلهيًّا، يقسمون العالم بناء عليه ببساطة مفرطة إلى فسطاط خير وفسطاط شر، والسيد بادوك - بلا شك - من الفسطاط الثاني. ويوجد في وسط أمريكا وجنوبها ما يزيد على خمسة وخمسين مليون مسيحي، أصواتهم أوصلت رؤساء مثل ريجان وبوش وترامب إلى سدة الرئاسة، ويشكلون المعسكر الرافض لتقييد حرية السلاح.
نفَّذ بادوك جريمته بثلاث عشرة بندقية من طراز عسكري، تستخدمه عادة الجيوش، ويشتريه الأمريكيون بكل يُسر من متاجر في المولات. وعُثر في منزلَيْه على 24 بندقية أخرى، معظمها اشتراها قبل عام من المجزرة دون أن يثير أي شبهات. كما عُثر على متفجرات جاهزة، أعدها تحوطًا لتغيير خطته فيما لو اقتضت أي ضرورة. وزود بادوك بنادقه الرشاشة الضخمة بأجهزة دفع متقدمة جدًّا، تجعلها تطلق الرصاص بسرعة 700 - 1000 طلقة في الدقيقة، وأطلق ما يقارب 30000 طلقة بشكل مباشر على جمهور غفير من 23 ألف مواطن بريء، اجتمعوا في حفل للموسيقى «الشعبية»، ومع ذلك لم يُصنَّف إرهابيًّا مع أن معظم ضحاياه من البيض المحافظين؛ وهذا يستبعد مطلقًا الدوافع العنصرية. ومن السخرية أن معظمهم في منتصف العمر ممن يعارضون عادة تقنين الحصول على السلاح! وحضَّر السيد بادوك لجريمته لمدة طويلة بشكل متقن جدًّا؛ إذ درس الفندق وغُرَفه، وموقعه من مكان الحفل، وركَّب كاميرات داخل وخارج الجناح الفندقي؛ ما يستبعد شبهة الجنون. ويملك بادوك منزلَيْن، وأرسل قبل وقت قصير من جريمته حوالة بـ100 ألف دولار لصديقته في الفلبين؛ فهو ليس محتاجًا ولا فقيرًا. والعجيب أنه مع كل هذا التحضير لم تفطن له أجهزة الرقابة الأمنية الصارمة التي وُضعت لمكافحة الإرهاب بعد 11 - 9؛ ما يشي بأن الأجهزة الأمنية تركز على المسلمين والملونين فقط!!
مجزرة «مندلي بي» ليست حادثة القتل الجماعي الأولى في أمريكا، وربما لن تكون الأخيرة، بالرغم من أنها كانت الأضخم والأبشع. وحسب سي إن إن، فقد سبقها 273 حادثة أخرى خلال 275 يومًا مضى! وقد قُتل في أمريكا 11687 ضحية في هذا العام فقط. والمعروف أن مستوى العنف والجريمة في أمريكا هو الأعلى في العالم، وهي تعادل سبعة أضعافها في كندا التي تشبه الحياة فيها الحياة في أمريكا بشكل شبه متطابق، غير أن أمريكا تعتمد على الحلول الأمنية فقط لمكافحة الجريمة، وترى أن المجرمين «أشرار» بطبعهم، وليس بسبب ظروف استثنائية أو اجتماعية قد يعانون منها. والواضح أن في تركيبة المجتمع الأمريكي ما يحفز ارتفاع الجريمة بأنواعها كافة، وربما يكون النمط الاستهلاكي الرأسمالي الوحشي من أهمها.
ويتبنى المحافظون، وغالبيهم من الجمهوريين، الدفاع عن الحرية في امتلاك السلاح، ويرون حق امتلاك السلاح مقدسًا قدسية بقية «الإصلاحات العشر» في الدستور التي تكفل الحريات الأخرى. وينكرون أن حرية تكفل لرجل أن يشتري أكثر من 40 بندقية رشاشة ضخمة مع عشرات مخازن الرصاص، والأجهزة التي تحوِّلها إلى سلاح أوتوماتيكي بالكامل، تنطوي على مخاطر للمجتمع. وحجتهم التي يستندون إليها لا تبتعد كثيرًا عن وصف الرئيس للجريمة؛ فهم يرون الشر في الأشخاص وليس في البنادق!! وقد تبرعت جماعة الضغط هذه بـ 30 مليون دولار لحملة الرئيس الانتخابية. وقطاع صناعة الأسلحة في أمريكا الأضخم في العالم، ويملك قوة ضغط مهولة. وبدلاً من أن تصدر إدارة ترامب تنظيمات تحدُّ من حرية شراء الأسلحة الخطرة لكل من هب ودب أصدرت قرارًا رئاسيًّا يمنع النساء من الحصول على وسائل تنظيم الحمل من شركات التأمين!! وكما يقال «عش رجبًا ترى عجبًا».