د. حمزة السالم
المجتمع التقليدي المحافظ يرفض كل مستجد, سواء أكان تابعا أو أصلا لخوفه من أن تكون فتنة، فالاحتياط السلبي دائما هو الأول عنده. وأما المجتمع المستقل فكريا فيتأمل في حقيقة الأمر المستجد ويميزه أهو أصيل أم تابع، ثم يجمع معطياته ويقابلها ببعضها وبنتائج ما يخرج من الأمر المستجد ثم يبني رأيه وحكمه عليه. فإن كان سيئا منعه، فمنع ما ينتج عنه من مستجدات تابعة لا يمكن منعها. وإن كان المُستجد حسنا سمح به، فالتطور لا يحدث إلا بوجود المستحدثات الأصيلة النافعة.
وعلى النقيض من هذا، فالبرغم من رفض المجتمع المحافظ لكل مستجد ، إلا أنك ترى المجتمعات المحافظة تطير أحيانا وراء الصيحات والتقليعات الضارة. والمجتمع الواعي يفرق بين المستجد وبين الصيحات الفارغة. فلا يخلو مجتمع متطور أو تقليدي من أفراد تستخفهم كل صيحة جديدة فيركبونها إما لخفة في عقولهم وإما لمصالح ذاتية - سواء مادية أو معنوية - ينالونها من المُستحدث الجديد. والمجتمعات الراقية فكريا تتجاهل أمثال هؤلاء حتى تضعف صيحتهم ويصبحون نسيا منسيا. وأما المجتمعات المتخلفة فتُستخف مع أمثال هؤلاء فتطير معهم وتصفق لهم وترقص، ولذا تكثر النكبات والفتن والمآسي في العالم الإسلامي لسهولة الاستخفاف بها عن طريق التلاعب بالعواطف الدينية.
وفي العمليات الانتحارية الجهادية وفي صيرفة الحيل المسماة «بالإسلامية» عبرة ومثل. فكلاهما أمران مستحدثان أصيلان في أساس بزوغهما، وإن كانت هناك عوامل مستجدة أخرى ثانوية ساهمت في ذلك. فالانتحار الجهادي جاء أساسا كرد على حالة عجز المسلمين وضعفهم. وهي حالة موجودة منذ قرون، بل قد كانت أشد وأسوأ من قبل. وصيرفة الحيل جاءت أساسا كرد على حالة شلل التمويلات في المجتمع الإسلامي، وهي حالة كانت منذ أن عرفت مجتمعاتنا البنوك قبل نصف قرن، وليست أمراً جديداً. وفي كلا الحالين استخفت المجتمعات الإسلامية معها، غير مقيمة لصلاح أم فساد ما سوف تجلبه من مستحدثات جديدة تابعة.
الإقدام على قتل النفس في المعارك ليس من أساليب المسلمين القتالية بل هو من صفات البوذيين خاصة كاليابانيين والفيتناميين ويأتي من بعدهم المشركون والملحدون ويندر في أهل الكتاب، فالعمليات الانتحارية الجهادية حالة مستجدة أصيلة ظهر منها حالة مستجدة تابعة وهي الإرهاب الانتحاري التي جعلت الإرهاب صامدا ومتعديا للحواجز الأمنية. فالإرهاب المطلق ليس أمرا مستحدثا، والفكر التكفيري ليس أمرا جديدا، ولذا عجزنا أن نمنع الإرهاب اليوم بينما استطعنا أن نقطع شره بعد فتنة جهيمان. فالمستجد التابع لا يمكن منعه ما لم يُمنع المُستجد الأصيل.
وصيرفة الحيل مُستجد أصيل يدعو المجتمع إلى تشريع التحايل في المعاملات وإلى الكذب في النوايا والمقاصد وإلى تعطيل العقل في المعاملات وينسب ذلك زورا وبهتانا إلى الدين ومكارم الأخلاق. فهذا مستجد، سارع اليه مجتمعنا المحافظ، فإن لم نتدارك الأمر، فيمنعه عقلاء المجتمع فسيخرج عنه مستجدات تابعة خبيثة يغص بها المجتمع ويعجز عن حلها.
فالفتن تبدأ صغيرة جذابة ثم تستخف معها ابتداء من سعى إليها، ثم تعود لا تفرق، فتطم وتعم فتنال الأديان والبلاد والعباد.