يبدأ اللعب باللغة منذ تلك العلاقة الاعتباطية بين اللفظ و المعنى أو الدال و المدلول، فهي لعبة يصطلح عليها البشر ليُنضجوا لهم لفظًا فيجعلوه دالًا على حاجاتهم. و لم يقتصر اللعب باللغة على تلك الاعتباطية بل تعداها إلى اعتباطيةٍ مصطنعة يقيمها الإنسان للتدليل على مشاعره بألفاظ و معاني مخالفة؛ فالحزن يتحول فرحًا و الترحيب يحمل نوعا من الازدراء ؛ فهو لعب مقصود يصطلح البلاغيون على بعضه (بالمدح بما يشبه الذم).
و المجاز هو اللعبة الكبرى للغة؛ فاللعب بالمجاز هو أسمى أنواع الترفيه لدى الإنسان فيلعب به ليقنع الآخرين أو ليكبتهم و ربما ليسامرهم ولعله أيضا ليمنّيهم، وكل هذا يستمده من اللعب باللغة.
و لقد استطاع الفلاسفة اللعب بها ليغوصوا في كل شيء فيتفلسفوا من خلالها؛ لذا فإننا نجد تركيزهم عليها منذ الفلسفة اليونانية فيقسمون أفكارهم و يُظهروا آراءهم و فلسفاتهم من خلال هذه اللغة، فهم يتبارون بها على مر تاريخ الفلسفة البشرية حتى وصلوا إلى المرحلة المعاصرة التي دخلوا بفلسفتهم داخل النص/اللغة ، (فلاشيء خارج النص)، و راحوا يُفَاقِمون لعبهم باللغة في البحث عن المعنى أو عن المعاني التي تكتنزها اللغة.
و حتى لو افترضنا بأن الشعر قبل النثر فإنما الشعر لعب باللغة فهو يقلل المعنى و يكثره، و يدهش المشاعر و يحطمها لذا فإن الشاعر هو المعلم الأول للعب باللغة، ويمتد هذا اللعب إلى كل أسلوب أدبي؛ مما جعل النقاد يبحثون في أدبية الأدب أو الشاعرية، ( ما الذي يجعل الأدب أدبًا؟!) ، وكل الذين غاصوا في البلاغة والنقد حاولوا أن يلعبوا ب(لعب اللغة) ؛ فهو لعبٌ على لعب؛ فالمبدع يلعب بها كما أن الناقد لاعبٌ ثانٍ.
و لهذا اللعب محاسنه التي تجعلنا نمدح فيه التغيير والإبداع؛ حتى إننا نمل الأسلوب الركيك (الذي لا يلعب باللغة) ونمجّد الأسلوب الأدبي (اللاعب بها) كما أن له مساوئه التي وصلت إلى أن كل فهم هو سوءُ فهمٍ -كما عند دريدا- ؛ فالإساءة أضحت حُسْنًا بفضل (اللعب باللغة).
و لعلها المتعة التي لا يملها الإنسان أن يتحدث و يقول كل شيء ويعتب و ينفر ممن يحدد له ما يقوله ؛ إنه يرفض تحديد مادة لعبه وتقنين ترفيهه ؛ فهي اللعبة الأهم التي يغذي بها مشاعره و تفكيره ؛ حتى وإنْ تحول اللعب بها إلى (siri) و هو التطبيق الذي أبدعته شركة أبل في نظامها ليتحدث مثلنا و يفهم كلامنا ؛ و ربما يكون تحريفه لكثير من كلامنا هو لعب ؛ فقد قلتُ له يوماً أن يكتب هوبز (الفيلسوف) فكتب لي (خبز) ؛ فهو يفهم أننا نلعب باللغة فيسايرنا.
** **
- صالح بن سالم
_ssaleh_@