تركي بن رشود الشثري
«كن متخصصًا في العودة إلى المسار الصحيح»
كتاب قوة التركيز
هل سبق أن فشلت في دراسة أي مشروع تجاري أو ألمت بك ملمة من ضائقة مالية أو مرض أو غيرهما من العوارض لو راجعت مذكرات الناجحين ستجد بينهم مشتركًا بيَّنًا إلا وهو المرور بمحنة مزلزلة أو فشل ذريع اضطرهم للتوقف والتأمل في أنفسهم والتأمل في الكون ونظامه والحياة ومجراها ليقوموا مرة أخرى في حال أشد وساعد أسد هم لم يضيعوا أيام الفشل في لوم الناس أو النحيب والعويل والشكوى بل استجمعوا قواهم وتفكروا في مقدراتهم وما وهبهم الله فلما سد عليهم باب بحثوا دائبين عن الأبواب الأخرى التي فتحت لهم بابًا وراء باب يذكر الدكتور مصطفى محمود عن نفسه أنه مرض مرضًا عضالاً أودعه غرفته ما يفوق السنة الكاملة يقول خلال هذه السنة غصت في تدبر عميق وقضيت أوقاتي مقبلاً على الآداب الأوروبية والكلاسيكيات الإنجليزية والفرنسية والروسية والألمانية فنهلت منها ما نهلت ونظرت في معاناة الإنسان في كل مكان وزمان وجنس وقمت بعد هذه الوعكة مصطفى محمود المفكر المتأمل الهادئ المتزن فقد انجلت عنه عرامة الشباب واندفاعاته إذن الفشل بوابة النجاح، الفشل جواز عبور للنجاح، الفشل والتعثر مدرسة بحسب استعداد التلميذ وقراءته الإيجابية والمقتنصة للأحداث، فكل حدث أيًا كان فرصة للتعلم والاستفادة والتمرن لعضلات النفس والقلب، فكل عمل تعثرت فيه أبحث عن الأسباب ولا تدع هذا مجالاً للتملص من الحياة الجادة والرضا بالانزواء والاختفاء من حياة العاملين الممتازين لماذا فشلت ومن أين أتيت وهل بالفعل كانت الوجهة برمتها غير صحيحة فتغيرها أم لا المهم هو تبديل نظرتك للفشل وأنه دعوة لتغيير الأدوات أو تحسين الرؤية أو استشارة أهل الاختصاص بعد أخذ وقتك في التأمل الهادئ ومراجعة الحسابات مراجعة دقيقة.
أيضًا لا تهمل الطموحات العالية فبعضهم يراوح تحقيق الأهداف الصغيرة المتوالية ويشعر دائمًا بنشوة التقدم البطيء وهذا معنى لا بأس به ومع ذلك فينبغي عليك تحديد هدف كبير ورفع سقف طموحاتك حتى وإن فشلت ولم تقارب هذا السقف، فالمهم هو خوض الغمار ومنازلة العُقَد وصرف الأوقات في أعمال جليلة تكسبك الخبرات والعلاقات وتمنح شخصيتك الحضور على الصعد العالية وما يدريك فلعله يفتح لك في مجال عظيم ما كنت تحلم به وأنت دائب في محاولة الأهداف الصغيرة الوقتية.
يقول جيم رون: «تعلم أن تفصل بين الأمور المهمة والأمور التافهة فالكثير من الناس لا يتقدمون، لأنهم ببساطة يتفوقون في أداء الأمور التافهة».
استثمر الفشل وَضَع إلى جوار الأهداف الصغرى هدفًا أكبر وحاول جاهدًا مناورة العقبات عقبة تلو عقبة ولا تفتح النار على جميع الجبهات دفعة واحدة ولا تجمع المشكلات في سلة واحدة فإنك ستنوء بحملها فرِّق الصفقة، كما يقال وجزِّء الأعمال الكبيرة إلى وحدات أصغر كي تطيق العمل وتكثف الإتقان وتحسن الجودة ولو كلفك ذلك المزيد من الوقت فلأن تصل متأخرًا خيرًا من ألا تصل، نعم قد يغريك صعود بعضهم الصاروخي في أي مجال من مجالات الحياة ولكن هل هذا كل ما هنالك فكثير من الصاروخيين سقطوا، الذي لم يسقط منهم أعطاه الله من القدرات وهيأ له من الأسباب وصرف عنه من الموانع ما لم يتم لك أنت فلا تضع رأسك برأسه ولا تقارن نفسك بنفسه ولكن اعمل بصمت ودأب على التعلم وعلى العمل شيئًا فشيئًا حتى تملك ناصية فنك ومجالك ولو بعد حين ونية المؤمن لها عند الله شأن وأي شأن وما يدريك لعل وصولك شابًا يفتنك أو يجعلك جريئًا على من هو أكبر منك قدرًا وعلمًا واختصاصًا أو يوقعك في الإعجاب والزهو وتلك القاصمة وعلى كل حال فالتعلم وظيفة العمر، فلا ينفك عن التعلم إلا من نوى الانزواء والتوقف عن النمو وهكذا ركزت اليونسكو على مقولة التعلم مدى الحياة واتخذتها مظلة لكثير من مبادراتها المجتمعية في ميدان التعليم، فلا بد من التعلم مدى الحياة وذلك دون اعتبار لم يحققه الآخرون من منجزات لأن حبس النفس في مضمار المقارنة الدائب مع الآخرين معناه الخسارة في جميع الميادين، لماذا لأن الناس مواهب وقدر وظروف واستعدادات وسوف تموت قبل الموت أن ظللت أسيرًا للناس فلا تستطيع أن تنظر لتفوقك ونجاحك إلا بمعيار ما بلغوا وما حققوا وعليه فأشرف المنافسات هي منافسة النفس لا منافسة الناس، فتنوى أنك في يومك ستتفوق على أمسك وفي عامك الحالي على عامك الماضي وهكذا ففرصة النجاح والتفوق على النفس متاحة ومأمونة العواقب، بل إن الناس إن كنت متعلقًا بهم ولا بد سيلحظوا هذا التفوق، أي تفوقك على نفسك أكثر من ملاحظتهم، تفوقك على غيرك ومن ميزات مباراة النفس هي الارتياح وأخذ الوقت المطلوب وسهولة القياس وتلافي الأخطاء السابقة وتنمية مواطن القوة ومراعاة نقاط الضعف في يسر وسهولة، سأل أحدهم عن النجاح فقال: هو التنقل ما بين فشل وآخر من دون إحباط ولا فقد للحماس فما دمت متفائلاً ومتحمسًا فأنت على طريق النجاح الذي من علاماته الفشل تلو الفشل مع الاستثمار البالغ من خلال هذا الفشل ليكون وودًا للنجاح والامتلاء وكسب الخبرات وحصد العلاقات مع مراعاة النظر لمن هم دونك في الدنيا كيلا تزدري النعمة ومن هم أعلى في الدين والخلق كي تتشبه بالكرام فذاك هو الفلاح.
يقول روبرتسون ديفيس: «لا تبالغ في تسليط الضوء على خفايا النفس،
إدراك الإنسان اللغز الكامن فيه يتم دائمًا على حساب براءته».
في لحظات الانكسار تدعوك نفسك لنفض الغبار الذي يغطي مرآة النفس والبحث في دهاليز النفس وما الذي يقبع وراءها ولماذا سقطت في هذه الحفرة أو لماذا تعرضت لهذا الحادث أو هل هي بالقدرة الكافية للتكيف مع هذه الملمة أو تلك وكان شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله- يوصي أحد طلابه بألا يبالغ في تفتيش النفس فهي كالحش فلا تفتشه، نعم قدر من التعرف على النفس مطلوب ولكن المرفوض هو تعرية النفس ظنًا منك أنك ستحصل جراء ذلك على عائدة نفسية سخية، فالنفس على العموم في طور النمو ولا يتوقف نموها عند حد، هي تتراجع وتتقدم وتتشكل بل وعليها أغطية وستور من فعل الماضي فالمهمة الأرشد هي إزاحة بعض الأغطية التي ليست من صميم النفس، بل هي طارئة عليها لمقاربة الصفاء النفسي تقول تورد دونا شابر: «عندما نريد تجديد مقعد قديم فإن أول ما نقوم به هو نزع الوجه الخارجي إلى أن نصل إلى الهيكل الخشبي للمقعد، ننزع جميع السنوات التي تراكم عليها الأقذار ننزع طبقات الألوان الزخرفية نتخلص من جميع الأجزاء البالية التي قمنا بتثبيتها عبر السنين لنكشف عن ذلك الشيء البسيط الحقيقي الموجود تحتها مباشرة».
كذلك عندما يطرأ على حياة الإنسان أحداثًا مؤلمة فإن وتيرة الحساسية تزيد لديه فهو يحتاج الدعم المعنوي ممن حوله وكذلك يرتاب في صدق بعضهم ويشك في شماتة البعض الآخر المهم هو أنه الآن في حالة ضعف مما يولد لديه شعورًا بالنقص أو استرجاع لمواقف مؤلمة سابقة أو عقد قديمة ومن أجل التخفف من كل هذا لأن المصيبة واحدة وهي كافية فكيف إذا ضممت إليها ذاكرة الماضي المشروخة، إنك بذلك تزيد الحمل وتفرق الهم فمن أجل التخفف من كل هذا عليك بتنقية روحك وتفريغ عقلك من كل هذا السواد وإحسان الظن بالله واستصحاب الظن الحسن في تعاملك مع الناس وعدم تحميل قولهم ما لا يحتمل وأي شكوك تتداعى في عقلك ألقها بعيدًا، بل لا تصدر الأحكام في هذه الفترة على الناس فلست مؤهلاً لذلك نظرًا للتشويش الذي يعتري حياتك افتعل البساطة لا تعقد الأمور اختلط بالناس بمقدار، لا تسدد فواتير قديمة لهذه الفترة، لا تحاسب ولا تعاقب فقط تنفس الهواء بشكل جيد وحاول تذكر المواقف الناجحة في حياتك وما نلته من إعجاب الآخرين فأنت بحاجة لسياسة نفسك بذلك الآن مع التركز على الاستثمار من خلال هذا الحدث المؤلم في حياتك ونظرتك للحياة.
ومع كل الذي مر إلا أنك مطالب في غمرات النجاح والفشل والصعود والهبوط أن ترطب حياتك بما يلائم نفسك وترتاح إليه وبعض هذا لا يتم إلا من خلال الترك والاسترخاء اللذيذ وتبريد الأعصاب والإقبال على الهويات الخفيفة التي يتخللها فترات من التأمل والتحديق في اللا شيء فالضغوط على النفس تكدها وتنهكها خصوصًا في عصرنا الذي هو عصر الضغوط بامتياز يذكر فريدريك لونورا عن صديقه جان كلود كاريير أنه يؤشر على عشرة أيام موزعة على مدار السنة يلتزم فيها بعدم إعطاء موعد لأحد قائلاً: هذه الأيام ملكي فيصرف الأربع وعشرين ساعة ما بين نوم وقراءة وتسكع ويجد نفسه وجهًا لوجه مع نفسه ثم يذكر عن نفسه أنه يخصص وقتًا لا يفعل فيه شيئًا يقول: (وأنا بحاجة ماسة إلى الطبيعة لذا أقضى معظم أوقاتي ومنذ عشرين سنة في الريف بعيدًا عن باريس أقوم كل يوم بنزهة في الطبيعة لغير ما غاية محددة وألعب بكرة المضرب وكرة القدم أثناء فترات تخفيف الضغط هذه يستعيد ذهني قواه ويجدد ذاته بحيث إني عندما أجلس إلى طاولة العمل أشعر بأن قدرتي زادت أضعافًا مضاعفة يا لسعادتي أن أكتب في ثلاث ساعات وأنا في غمرة الحماس ما كنت أنفق ولا ريب ثلاثة أيام لإنتاجه في حال من التعب النفسي).
نعم إن الذي يداوم على العمل لا بد أن يعتريه ضعف الإنتاجية ما لم يروح عن نفسه وليس من شرط هذا الترويح أن يكون بعد الإجهاد التام أو بعد حدث مؤلم وليس من شرطه أيضًا أن يكون ترويحًا مكلفًا، بل هناك اختيارات حياتية تلائم النفس بجمالها ورونقها وسكونها ومن الجيد الوقوف والتدبر في النفس وما يصلح لها فمن الناس من اعتاد الترويح المكلف ولم يعرف سواه لأنها في حومة العمل وتتابع الأحداث المؤلمة لا وقت لديه للاختيار ولا الفرز ولا البحث عن نشاطات حياتية مفرحة ومريحة ولعل البداية تكون وقفة للبحث عن بدائل رخيصة الثمن كبيرة المردود يعاودها الإنسان في فترات تتخلل صعوده على سلالم المجد أو هبوطه على مدارج ما يراه فشلاً.