د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
تحدثتُ فيما سبق عن خطر السُّلْطَة على التفكير العلمي، وأنَّ خضوعه لها من أبرز معوقاته، وأشرتُ إلى مجموعةٍ من الدعائم التي تستمدُّ منها السُّلْطَةُ قوَّتها في أدائها لهذه المهمة، ولعل من أهمها: (القِدَم)، فالآراء الموروثة عن الأجداد يُعتقد أنَّ لها قيمةً خاصة، وأنها تفوق بكثير الآراء التي يقول بها المعاصرون، انطلاقاً من أنَّ الحكمة والمعرفة كلها تكمن في القدماء! وهذا مبنيٌّ بطريقةٍ ضمنيةٍ على افتراض أنَّ التاريخ يسير في طريق التدهور!
وهذه النظرة إلى التاريخ -كما يرى فؤاد زكريا- فيها نوعٌ من التمجيد الرومانسي أو الخيالي للماضي وأجياله، وهي فكرةٌ لا تستند إلى أساسٍ من الواقع؛ لأنَّ القدماء كانوا بشراً مثلنا يصيبون ويخطئون، وكلُّ ما في الأمر أنَّ الإنسان إذا ضاق بحاضره، أو عجز عن إثبات وجوده فيه، صبغ الماضي بصبغةٍ ذهبية، واتخذ منه مهرباً وملجأً يلوذ به، والحقيقة عكس ذلك كما يقول (بيكن)؛ لأنَّ الأجيال القديمة التي نتصورها تمثِّل (شيخوخة البشرية) هي في الواقع أجيالٌ جديدة تمثِّل (طفولة البشرية)، أما الأجيال الحديثة فهي أقدم أجيال البشرية؛ لأنَّ الجيل القديم عاش في وقتٍ لم تكن البشرية قد اكتسبت تجارب كافية، فخبرته وحكمته محدودة، في حين أنَّ الجيل الحديث قد اكتسب خبرةً ممن هم أقدم منه، وأضاف إليها خبرته الخاصة، ومن ثم فهو الأجدر أن يُعدَّ قديما.
والمهم هنا أن نستوعب تماماً أنَّ قِدَم الرأي ليس دليلاً على صوابه، فقد عاشتْ البشرية ألوف السنين على أخطاء لم تكن تجرؤ على مناقشتها؛ لأنها ترجع إلى عهود الأجداد الأوائل، ولم يتبين لها خطؤها إلا حين يظهر مفكرٌ قادرٌ على تحدي سلطة القديم، والواقع يشهد أنَّ الميل إلى الأخذ بسلطة القدماء يزداد في عصور الركود والانصراف عن التجديد، ومن ثم يمكن القول إنَّ هذا الخضوع لسلطة القدماء ليس في ذاته هو المؤدي إلى تخلُّف التفكير العلمي، بل إنَّ هذا التخلُّف هو الذي يؤدي إليه.
أما الدعامة الثانية فهي (الانتشار)، فالرأي يكتسب سلطةً أكبر إذا كان شائعاً بين الناس، وكلما زاد عدد القائلين به صعبتْ مقاومته؛ ولهذا كانت الحُجَّة التي تُوجَّه دائماً إلى مَن يعترض على رأي شائع هي: هل ستكون أنت أحكم وأعلم من كلِّ هؤلاء؟ ولو أنَّ بعض عظماء البشر خافوا من قول: نعم، لما تقدَّمتْ البشرية في مسيرتها، ولما اهتدتْ إلى حقائق أصدق وقيم أسمى مما كان يسودها من قبل.
إنَّ جموع الناس تبحث عادةً عن الأسهل والمريح، وتتجمَّع سوياً حول الرأي الواحد مثلما تتلاصق أسراب الطيور لتحمي نفسها من الصقيع، وكلما كان الرأي منتشراً ومألوفاً كان في قبوله نوعٌ من الحماية لصاحبه؛ إذ يعلم أنه ليس الوحيد الذي يقول به، بل يشعر بدفء الجموع الكبيرة وهي تشاركه، ويطمئنُّ إلى أنه يستظلُّ تحت سقف الكثرة الغالبة، أما إحساس المرء بأنه منفردٌ برأيٍ جديد، وبأنه يقتحم أرضاً لم تطأها قدمٌ قبلُ، وأنَّ عليه خوض معركةٍ مع الكثرة الغالبة ليحمي فكرته الوليدة، فلا يقدر على هذا الإحساس إلا القليلون، وهم الذين حقَّقتْ البشرية على يديهم أعظم إنجازاتها.
وينبه زكريا على قضيةٍ مهمةٍ في هذا السياق، وهي أنَّ تحدِّي سلطة الانتشار لا يؤتي ثماره إلا إذا كان مَن يقوم به على مستوى المهمة التي يأخذها على عاتقه؛ لأنَّ هناك أناساً يمارسون عملية التحدي من موقع السطحية ومن منطلق التفاهة، ومن باب (خالف تُعرف)، إذ يتصورون أنَّ وقوفهم في وجه الرأي الشائع كفيلٌ بأن يجلب لهم الشهرة، دون أن يُقدِّموا بديلاً عمَّا يعترضون عليه، وهؤلاء في الحقيقة خاضعون لسلطةٍ أخرى وهي سلطة الرفض أو التجديد، ولهذا ينبغي التفريق بين مَن يخالف الرأي الشائع لأنَّ لديه شيئاً جديدا، وبين مَن يخالفه لكي يشتهر بهذا المظهر فقط، دون أن يكون قادراً على الإتيان بأيِّ جديد.
وتأتي (الشهرة) بوصفها الدعامة الثالثة التي ترتكز عليها السلطة في إخضاعها للتفكير العلمي وإعاقته، فالرأي يكتسب سلطةً كبرى في أذهان الناس حين يصدر عن شخصٍ اشتهر بينهم بالخبرة والدراية في ميدانه، ويكفي أن يشتهر إنسانٌ لسبب قد لا يكون له علاقةٌ بكفاءته حتى يحدث تأثيرٌ تراكميٌّ لنفوذه وسلطته على الناس، فتتبع الجماهير أخباره وتتلقَّف كلماته.
ووجه الخطورة في هذا العنصر يتمثَّل في أمرين؛ الأول: إذا كان الشخص المشهور ينتمي إلى غير عصرنا، فينبغي أن ندرك أنَّ شهرته التي ربما كان لها ما يبررها في ذلك الوقت لا يصح أن تُطبَّق على كلِّ زمان، فمهما كان المرء عملاقاً في عصره فلا يستطيع أن يفي بمطالب كلِّ عصرٍ لاحق، وهو الخطأ الذي ارتكبته العصور الوسطى في نظرتها إلى أرسطو. الثاني: إذا كان الشخص المشهور معاصراً لنا فإنَّ هناك خطراً جديداً يتمثَّل في أجهزة الإعلام الحديثة التي تملك الوسائل الكفيلة بتضخيم الشهرة وإعطائها ما لا تستحق، فنضطر إلى استحضار ذلك النجم حين تعترضنا مشكلة في ميدان معين، وقد لا يكون أكثر الناس خبرةً فيه، وقد لا تكون شهرته إلا مصطنعة.
أما (الرغبة) أو (التمني) فهي الدعامة الرابعة، حيث يميل الناس إلى تصديق ما يرغبون فيه أو يتمنون أن يحدث، وفي المقابل فإنهم يحاربون ما يصدم رغباتهم ويحبط أمانيهم، ولهذا كانت النظرية الفلكية الجديدة -التي تجعل من الأرض مجرَّد كوكب في المجموعة الشمسية- تلقى مقاومةً شديدةً في عصر النهضة الأوروبية؛ لأنها تقضي على المكانة المميزة للإنسان باعتباره أهم الكائنات التي تعيش في أهم كوكب في الكون، بل في المركز الذي تدور حوله الأجرام السماوية.
لقد كان من أهم أسباب سلطة النظرية القديمة أنها ترضي غرور الإنسان، وتستجيب لأمنيةٍ عزيزةٍ من أمانيه، فرجال الكنيسة في أيام (جاليليو) كانوا يرفضون النظر بمنظاره المقرِّب الجديد ليروا السماء لأول مرة، خوفاً من أن تؤدي هذه النظرة إلى هدم عالمٍ عزيزٍ مألوفٍ ارتاحوا إليه واكتسبوا مكانتهم فيه، كما كانوا يجزعون من تلك المسؤولية الفادحة التي سيتحمَّلونها في ذلك العالم الجديد الموحش الذي تقول به نظرية (كبرنيكوس)، ذلك العالم الذي لا يرث الإنسان فيه مكانته لمجرد كونه إنسانا، بل يتعين عليه أن يكتسبها بعمله وجهده.
وختاماً.. فإنَّ قدرتنا على التفكير العلمي الصحيح السليم المنضبط مهددةٌ بالعديد من العقبات والمعوقات، وما الخضوع للسلطة إلا واحدة من تلك المعوقات التي تمارس تأثيرها الضار في عقل الإنسان العربي دون ضابط، ولا بد من حماية الأجيال الجديدة منها، من خلال إدخال المبادئ الأولية للتفكير العلمي في برامجنا التعليمية، بحيث يتنبه النشء منذ صغره إلى خطورة هذه المعوقات، مما يمكنه من تلافيها، ليكون قادراً على ممارسة تفكيره العلمي الصحيح، ويسهم في تحقيق تطور البشرية والارتقاء بها.