د. إبراهيم بن محمد الشتوي
قرأت في أحد المواقع الإخبارية خبراً عن حادثة اغتصاب في باكستان، كان ضحيتها فتاة قاصرة في الثانية عشرة من عمرها، وقد قضى «شيوخ» القرية بأن يعاقب الشاب المغتصب بأن تغتصب أخته، بناء على أن الجزاء من جنس العمل، وقد قرأت في أزمنة سابقة حوادث مشابهة لهذه الحادثة، دارت في المكان عينه أو في المنطقة القريبة منه، وكان القضاة فيها مشايخ القبيلة. وربما يعود الاختلاف بين مشايخ القبيلة أو القرية إلى صياغة الخبر، في حين أن المعنى واحد، فتلك القرى تتكون من قبيلة واحدة أو قبيلتين اثنتين، ومن هنا فإن مشايخ القرية فيها هم في الغالب مشايخ قبليين في الوقت نفسه، والذي يعني أن الدلالة واحدة، والمنظومة الثقافية التي تحكم العقليتين واحدة.
وقد يبدو للوهلة الأولى أن هذا الحكم غريب، فلماذا مثلاً لم يختر هؤلاء المشايخ قتل المغتصب -مثلاً- كما هو في بعض القوانين، أو جلده، أو لم يغتصبوه هو بما أنه الجاني أصلاً، فلماذا يأخذون أخته لإيقاع العقاب، ألأنه رجل خارج إطار العقوبة، ولأن الفتاة ضعيفة، تتحمل أوزار أخيها نيابة عنه، وهو ما يعبر عنه بالتعبير العامي أن النساء ينظفون أفعال الرجال، (وكأنهم فوط).
الحقيقة أن وراء هذا الاختيار سبب عميق، وليست المسألة حماية الشاب، وإيقاع الأذى بالبنت، وإنما يتمثل بحل جذري للمشكلة التي نتجت عن حادثة «الاغتصاب»، فالحادثة وقعت على «البنت»، التي يرتبط ما تقوم به بشرف القبيلة كلها، فما وقع لها من أذى يتصل يعد لطخة في القبيلة، في حين أن الشاب، كما يقول المثل العامي «ينقل عيبه» فما يحدث له يكون محصوراً به، ينسب إليه، إن كان سوءاً وإن كان مجداً فهو له. وهذا يعني أن ما حدث لهذه الفتاة قد أدى إلى الإضرار بالقبيلة أجمع، ولا يزيله إيقاع العقوبة بالفتى، التي ستظل بعد ذلك قد انتهك عرض إحدى بناتها، وستظل موصومة بذلك بين القبائل التي تعيش في المنطقة نفسها.
هذه المشكلة لا يحلها إلا مساواة هذه القبيلة بالقبائل الأخرى، وهذا لا يتم إلا عن طريق وصمها بما وصمت به القبيلة، وشرفها، وذلك بإيقاع الفعل نفسه على فتياتها، ولأنه لا يمكن أن يوقع على قبائل أو أسر لا صلة لها بالموضوع ولم تجن شيئاً، فلا أقل من وصم القلبية وشرفها، التي ينتسب لها الشاب، وذلك بمضاجعة إحدى أخواته. هنا تنتهي المشكلة وتتساوى القبيلتان في المشهد الاجتماعي، وهنا تكمن حكمة «الشيوخ»، فالعار عار جمعي، لا تحله عقوبة فردية، وهو ينطلق من موقع «الفتاة» بالقبيلة.
وقد شابه هذا الحكم، أحكام أخرى، كأن يقوم بعض أفراد القبيلة بقتل الفتاة «الضحية» التي ساقها حظها العاثر في طريق هذا المغتصب حتى تنتهي قضيتها، وما جلبته من عار، أو بتزويجها للمغتصب، بوصفها عاراً أو بضاعة معيبة، فهو أولى به، دون النظر إلى المآل الذي ستؤول إليه الفتاة بعد الزواج، وهذا ما جعل بعض الذين يتحدثون عن هذه القضية بأن الأمر كأنه: اغتصب فتاة ثم تزوجها مكافأة لك.
وبناء على أن هذا الموقف ليس سطحياً، ولكنه مرتبط بالمنظومة القيمية للقبيلة، والذهنية الثقافية لشيوخها، فإن الأحكام الأخرى التي تطبق على نظائر هذه الحادثة تكشف أيضاً المنظومات الأخرى، ورؤيتها لعناصر الحدث، فالحكم -مثلاً- في القرآن الكريم لا يتجاوز أطراف «الواقعة»، ولا ينظر إلى «الضحية» بوصفها جانية تتحمل جزءاً من الوزر. ولأن الذنب محصور في الجاني هو المسؤول عما قام به، ولذا فإن العقوبة تلحقه وحده، سواء بالسجن والجلد، أو القتل، فإن هذا يعني أن ما حصل للفتاة هو أمر فردي لا يخرج إلى سواها من أفراد القبيلة الأم، وهي بموازاة الشاب الذي قام بتلك الجريمة، الأمر الذي يعني أن الفتاة شخصية مستقلة في القبيلة كما الشاب، مسؤولة عن أفعالها وحدها، وما تقوم به ينسب إليها وحدها. هذه النظرة نحو التكوين الاجتماعي التي تجعل المرأة مسؤولة أمام القانون عن أفعالها، وكائناً مستقلاً عن القبيلة ليست موجودة في الذهنية التي أنتجت النوع المذكور في أعلى المقال من العقوبات.
خاتمة:
«أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟!».