عبد الله الماجد
أخذتني صحبة «عمر الخيام» صاحب الرباعيات التي شهرها الغرب, بعد ترجمة «فيتزجرالد» (Fitzgerald) الأنجلو ساكسوني في عام 1858, إلى ميادين أشمل وصاحب الفضل في هذه الصحبة, شيخي ومعلمي علامة عصره أبوعبدالرحمن بن عقيل الظاهري, عفا الله عنه وأمد في عمره.
ومن تييسر الحظ في حياتي, أن القت بي السبل, إلى العمل في مُقبل حياتي بدار الكتب الوطنية, الأولى في أواخر الثمانينات الهجرية, وكنت لم أناهز العشرين عاماً. فنشأت على حب الكتب, حتى فتنت بها إلى يومنا هذا. وتييسر الحظ الثاني؛ صُحبة شيخي أبوعبدالرحمن, لأعمل معه في بحثه عن «الفناء الباقي» في رباعيات الخيام, في أواخر الثمانينات الهجرية. فكانت أيام «الشميشي» - رعى الله تلك الأيام - مراحة للعلم والتعلّم والبحث, وجدت نفسي مرة أخرى بين الكتب ولكن هذه المرة مع شيخ ومعلم. وهكذا بدأت رحلة التعلم والبحث, ومجالدة البحث وكان أول درس قاله - عفا الله عنه - «العلم يؤخذ جئوًا على الركب». كانت الكتب في دارته تملأ الجدران حتى تناهز السقف, وتتناثر على الأرض. وهكذا بدأ البحث الجاد. وقد تعلمت وأنا صاحب ذائقة لاقطة ما وسعني التعلّم, وتعلمت أدوات البحث الأولى, وهي تحديد الموضوع, والإحاطة بمراجعه, ومقابلتها ببعضها, ومناقشتها, والتعليل والترجيح ثم التحرير والبحث في المصادر عن قول أو رباعية شاردة, أما قوام البحث, فكان في عهدة شيخي.
ويبدو أن الخيام, ظل قابعاً منزوياً في حافظة عقلي, أو في «كُناشتي» - كما يقول أبوعبدالرحمن- حتى انتفض مرة أخرى, بعد كل تلك السنين, وها هي قصة ذلك (وأنا أكتب هذا الموضوع بمناسبة إطلاعي مؤخرًا على تلك السلسلة من المقالات الممتعة التي نشرها أبوعبدالرحمن في الجزيرة ابتداء من 20 /1 /2014 حتى 22/3/2014, وهي عشر مقالات والتي عاد فيها إلى مناقشة الرباعيات ومشكلة ترجمة النصوص الأدبية, ولم أكن قد قرأتها في حين نشرها, ولا علم - حتى الآن - هل ضمها كتاب كما وعد أم لا.
وقصة الخيام معي بعد ذلك - التي أسردها - سوف يكون أبوعبدالرحمن, أول المتفاجئين, بل المسرورين بتفاصيلها, وقد كنت اقتنص لحظة المخايلة, حتى تفاجأه الواقعة في حينها ولكنه استدرجني حينما نشر تلك الحلقات العشر عن الرباعيات فعجل بالكشف مبكرًا عن ذلك.
والقصة تبدأ, بأنني ومنذ أكثر من خمسة عشر عاماً, بدأت العمل في البحث في الرباعيات, ومدى حقيقة أن هذه الرباعيات - وبسند علمي - هي لعمر الخيام, الفيلسوف والرياضي الفلكي, وصاحب الصفات الأخرى التي تخلو منها صفة الشاعر, وتكشفت لي أثناء البحث أمور كثيرة, أهم تلك الأمور, أن معظم الرباعيات المتداولة قد انتحلت على اسم عمر الخيام.
فانكببت على ما لدي من المراجع وسعيت إلى جلب ما أسمع عنه, ونحيت ما استطيع, البحث في الشبكة العنكبوتية «الإنترنت» فالاعتماد عليها كمصدر أو كمرجع, غير معتمد علمياً. ولا تطمئن إليه نفس الباحث المدقق. وقد جعلت سؤال ومشكلة الدراسة انتحال الرباعيات, وهل يطمئن الباحث إلى نسبتها للحكيم والرياضي والفلكي عمر الخيام. والحقيقة أن بعض الباحثين, بل إن معظم مترجمي الرباعيات قد تشككوا في ذلك, فجعلت ذلك لُبّ هذه الدراسة. لكن في النفس ما فيها تجاه الرباعيات, فمالت إليها النفس, ولم تَهن نفسي بتركها, فعدت إليها, وجرّبت أن أُعيد صياغة ما اخترت منها مما ترجمه مترجمو الرباعيات المشهورين. فجاءت إعادة الصياغة هذه في ظني, نصاً موازياً ومفسرًا للرباعيات المتداولة, وهي (108) رباعية, وسميّتها «صوت عمر الخيام» على اعتبار أن الرباعيات هي نتاج عصر الخيام.
وها هي القصة, أسردها من مقدمة الدراسة: منذ أكثر من ثلاثين عاماً؛ أتاح لي شيخي العلامة «أبوعبد الرحمن بن عقيل الظاهري» - أمد الله في حياته - اكتشاف عالم «عمر الخيام» وهو يقوم بإعداد بحث بعنوان «الفناء الباقي في رباعيات الخيام وغرامه أو فلسفة الكوز» فقد ظنّ بي ما لم أكن أظنّه في نفسي, فدعاني إلى مشاركته في ذلك البحث, رغم حداثة خبرتي - إذ لازلت وقت ذاك برعماً في طور التفتح والنشوء - ومع ذلك, راهن مع نفسه وجعلني أشاركه في التأليف, وللحقيقة فإن دوري اقتصر على التحرير, والبحث في مَضان مراجع البحث, وقد نشر حلقات ذلك البحث في إحدى الصحف, ثم نشره في كتيب, واضعاً اسمي (مشاركاً في التأليف). وصدر الكتاب في «نشرته الثالثة» عام 1398هـ/1978م.
ومما استفدته من ذلك أيضًا, أنني قرأت مُعظم الترجمات العربية للرباعيات, التي ظهرت منذ بداية الترجمة العربية للرباعيات, وحتى وقت دراستها. كما أنني اطلعت على معظم المصادر العربية والمترجمة التي تطرقت لحياة الخيام, ونمت عندي ذائقة أخرى جديدة, أضفتها على ما لدي.
وظل الخيام ورباعياته, قابعاً في ذاكرتي, حتى قبل عشر سنوات, عندما استيقظ وانتفض مُجددًا, وهو الذي لم يَمت من ذاكرة الزمن. عندما طرحتُ فكرة اختيار مجموعة من الرباعيات, وإعادة صياغتها؛ على الناشر الإنجليزي «هيلين إكسلي» HELEN EXLEy لينشرها. وهو ناشر متخصص في نشر كُتب «الجيب» أو ما يُعرف بـ «GIFT BOOK» (كُتب الهدايا) التي ينشرها بلغات عالمية مختلفة. ثم تترجم هذه المختارات إلى لغات أخرى منها العربية - وقد تحمست لإعادة صياغتها من الترجمات العربية المختلفة - وفعلاً أنجزت هذه الصياغة الجديدة للرباعيات؛ وللأسف فإن الناشر الإنجليزي, أخبرني فيما بعد, أن مشروع الإصدارات العربية, الذي كان قد تم إنجاز أكثر من أربعين عنواناً منه باللغة العربية, أنجزتها «دار المريخ للنشر» لهذا المشروع؛ قد توقف, بسبب قلة توزيع هذه الإصدارات في العالم العربي, وكرهت أن أقول له: إننا في العالم العربي, أمة لا تقرأ, - مع أننا أمة اقرأ - وأن ثقافة القراءة من كتاب لم تتجذر في ثقافة أمة اقرأ. وأنا أعلم أن مشروعه قد احتوى على أكثر من 35 لغة, توزع في أنحاء العالم. وقد فرحت أن تكون اللغة العربية واحدة من هذه اللغات, ولكنني طويت حزني غصة وخجلاً, مع علمي أنه يَعرف الأسباب!
ثم عاودني الحنين إلى صاحبي «الخيام» الذي صاحبته - ولازلت - كل تلك السنوات, فقررت أن أطور فكرة المشروع, إلى دراسة تتناول حقيقة الرباعيات, وجعلت بذرتها تلك المختارات من الرباعيات, التي تمت إعادة صياغتها, والتي أسميتها «صوت عمر الخيام» وتذكرت أن الحزن والأسى على فقدان الحياة؛ الذي تفيض به الرباعيات؛ لازال يعتريني على فقدان نشرها عالمياً, ولكن الفرح «واهتبال» الحياة الذي عبرت عنه الرباعيات كذلك. هو الذي يُشعرني بالغبطة لإخراجها وإصدارها مجددًا في عمل يبحث في حقيقة نسبة الرباعيات إلى عمر الخيام, الذي عرفه الأستشراق, فيلسوفاً ورياضياً, وعالماً بشؤؤن الفلك. وهكذا فإن الدراسة سوف تتناول رباعيات الخيام, دوناً عن عمر الخيام - نفسه - كعالم وفيلسوف - كما عرفه العالم - وعلى قدر الجهد - فإنها سوف تبحث في مسألة تدوين الرباعيات, والانتحال الذي طال الرباعيات, ولقد وضعت الحقائق التالية, في مقدمة الأسباب التي دعت إلى ذلك:
1- أن عمر الخيام, ومن بين آثاره المعروفة - لم يترك نسخة من هذه الرباعيات بخطه, ولم يُعرف أنه أملا نسخة منها على أحد تلاميذه, أو عُثر على مخطوطة بخط واحد من أهل عصره.
2- أن تلاميذه مثل العروضي السمرقندي أحمد بن عمر بن علي النظامي, في كتابه المعروف «جهار مقاله» لم يرو عنه شيئاً من رباعياته. بل إن معظم معاصريه أمثال: الزمخشري, والبيهقي, وأبو بكر الرازي - وهم الذين دونوا مدونات في ذلك العصر - لم يتطرقوا إلى تفرده بالرباعيات, أو أنه في عداد الشعراء.
3- أصبحت الرباعيات - بعد أن ذاعت شهرتها - باعثاً لتداول نسخ منتحلة ومزورة من الرباعيات, حظيت بسوق رائجة في الغرب لدى مراكز البحث العلمي والجامعات وأثبتت الدراسات المعملية - فيما بعد - زيف تلك النسخ المخطوطة.
4- بلغ عدد الرباعيات في النسخ المتداولة نحو خمسة آلاف رباعية, كما توصل إلى ذلك المستشرق الألماني «فريدرش روزن» Friedrich Rosen (1856-1935) وهو أحد المهتمين بالبحث والتحقيق في رباعيات الخيام منذ مطلع القرن العشرين, وذلك أحد أمارات الانتحال الذي تعرضت له الرباعيات.
واعتقد أن المنحى الجديد, الذي قَدّمته هذه الدراسة - فضلاً عما ذكرت:
أولاً: أنها ألقت الأضواء والتحليل, على اتجاهات مترجمي الرباعيات العرب. واعتبرت الدراسة أن معظم الترجمات العربية هي بمثابة «رباعيات مضافة» أي مضافة على الأصل المفترض, الذي لم تتحقق منه معظم الدراسات التي تناولت رباعيات الخيام, منذ قرن ونصف.
ثانياً: وأمام هذه المعضلة - معضلة انتحال وتدوين الرباعيات - اخترت أكثر من مائة رباعية, اعتقدت «بالحس النقدي» أنها أقرب ما تكون إلى أن تُنسب للخيام. وأعدت صياغتها صياغة نثرية, من معظم الترجمات العربية؛ مما أظن أنه إبداع جديد للرباعيات, يمثل رؤية نقدية, إذ أن معظم هذه الصياغات الجديدة تُفسر الرباعيات المترجمة, مع عدم الإخلال بروح الرباعية الخيامية, (المفترضة) وزخمها الفني والتاريخي الذي يمكن ملاحظته في بعض المفردات في الرباعيات, وأطلقت عليها: (صوت عمر الخيام).
ثالثاً: خصصت فصلاً, لدراسة المناحي الفنية في الرباعيات, مركزًا على الاتجاهات الرئيسية في الرباعيات التي جرى إعادة صياغتها, ثم تصنيفها في ثلاثة موضوعات «كرؤوس موضوعات» وهي:
* الفناء الباقي * صوت الحياة * صوت الموت
وهي المناحي التي عَبّرتْ عنها الرباعيات بجلاء مُدرك. وقد نهجت في هذه الدراسة, المنهج النقدي الانطباعي التحليلي, حيث إنه أقرب إلى معانقة التجليات التي احتوت عليها الرباعيات.
رابعاً: مُعظم الدراسات - وبالأخص العربية منها - تعاملت مع الرباعيات, على أنها نصوص فلسفية, يجوز استخلاص فلسفة الخيام منها, وأنها من أدب الحكمة, وقد توافق هذا الزعم؛ مع لقب الخيام «بالحكيم» وإنما جاء هذا اللقب لاشتغاله بعلوم الفلسفة, التي من أهم فروعها: الرياضيات والهندسة, وعلوم الفلك والطب والميكانيكا والموسيقى والمنطق وعلم الأخلاق والأدب. وقد اختصر الدكتور إبراهيم بيومي مدكور؛ هذه الفروع في معنى واحد عندما قال إن الفلسفة هي «علم الموجودات بالعلل البعيدة» ولم يكن قد عُرف عن الخيام, في عصره على أنه من الشعراء. ولذلك فقد خصصت فصلاً بعنوان «الرباعيات بين الشعر والفلسفة» وقد انتهيت فيه إلى أنه لا يجوز علمياً اعتبار الرباعيات مصدرًا من مصادر فلسفته, لأن الشعر قول المطلق. والفلسفة قول المُحدد والمنطق. وبسبب هذا الخلط فقد ذهب بعض الباحثين إلى وصف الخيام بأنه «أبيقوري» النزعة, وأنه «لا أدري» اعتمادًا على رباعيات لم يتم التحقق من مدى نسبتها للخيام. هذه المزاعم تعود إلى ما كان يتعرض له الخيام, من بعض معاصريه, من أمثال متصوفة عصره ممن يعتبرون الفلاسفة من الملحدين, مثل (أبوبكر الرازي) الذي وصفه سنة 620هـ - أي بعد وفاة الخيام بما يقارب مائة عام - بأنه من (الفلاسفة والدهريين والطبيعيين) وأنه تاه في (الحيرة والضلال).
خامساً: وإمعاناً في تقديم حجة علمية, على قضية انتحال الرباعيات المنسوبة لعمر الخيام, فقد قمت بدراسة بعض رسائل الخيام الفلسفية المنشورة. واستخلصت منها (42) مصطلحاً فلسفياً, وقمت بشرحها موازناً بينها وبين مقولات أبرز الفلاسفة المعاصرين للخيام وبعض أعلام الفلسفة الحديثة. بهدف وضعها في مواجهة مع الرباعيات؛ لكي يتضح الفارق بين ما تحتوي عليه هذه الرباعيات المنسوبة للخيام. وبين فحوى تلك الرسائل الفلسفية التي أنشأها الخيام باللغة العربية, مما أبعد عنها طائلة التحوير والتزوير. وقد اتضح بما لا يدع مجالاً للشك والارتياب؛ أن من كتب هذه الرسائل الفلسفية, لا يمكن أن ينطوي خياله وفكره, على شيء مما احتوت عليه بعض الرباعيات المتداولة, ولا يمكن أن يكون قد قالها على ما تجرى عليه المفاكهة والممازحة.
ولا يعني ذلك - مطلقاً أن نلغي الرباعيات من مدونات الأدب, فهي فن شعري موجود ومتميز, وتمثل ثقافة عصر الخيام, كما لا يمكن الحكم بسند علمي أن جميع الرباعيات المقرونة باسم عمر الخيام, هي له, ما لم يظهر هذا الدليل العلمي, ولا شك أن اكتشاف ثلاثة أسماء باسم «الخيام» في عصر الخيام, ومنهم اثنان من الشعراء لهم شعر مدون ورباعيات؛ سوف يُلقى بظلال الشك على كثير من الرباعيات التي نسبت للخيام.
وللمستشرق الألماني «هانز هينرش شيدر» (1957 - 1986) (Schaeder) وهو من المعنين بالدراسات في الآداب الفارسية والعربية. قول صادم, فيما يتعلق بالرباعيات والخيام, يقول:
«الحكيم والعالم الرياضي عمر الخيام, لم يؤلف رباعيات, وأن هذه الرباعيات المنسوبة إليه, هي صورة من الشعر الباطني, الذي اشتهر عن العصر الذي سيطر فيه المغول, وشاع فيه الفساد أيام حكم آل سلجوق, وأنه آن الأوان, أن يُغلق ملف الخيام الشعري للأبد, وأن يحذف اسمه من تاريخ الشعر الفارسي».
وقد يُفسر قول «شيدر» المطلق, على أنه فيما يتعلق, بأن كثيرًا من الرباعيات, المنسوبة إلى عمر الخيام, التي تشيع فيها معاني الاعتقاد الباطني, قد أُلصقت باسمه بهتاناً وزوراً. كما أن البقية الصالحة من تلك الرباعيات, لاتزال مسألة نسبتها لعمر الخيام تحتاج إلى دليل علمي لا يقبل الشك. وهذا هو السبب الذي حَفزّ «شيدر» إلى إطلاق هذا الرأي الجازم. ولاتزال قضية الرباعيات, مسألة تؤرق الباحثين, فليس من الجرأة العلمية, إثبات, أو نفي أي نص كان, إلا بقرائن علمية ودالّة. ومع ذلك فلازلنا, رغم كل تلك المحاذير, نقرن الرباعيات باسم عمر الخيام لدواعي المعالجة الأدبية والنقدية.