سهام القحطاني
لا أحد ينكر أن الكونفدرالية الخليجية كانت من أنجح الكونفدراليات العربية، ولاشك أن لهذا النجاح عدة مشتركات أهمها؛ المشترك الجغرافي، و لعل هذا المشترك يكاد يكون أساس بنية نجاح تلك الكونفدرالية؛ لأنه عزّز التشابه و نقله من مجرد طبيعة بالاقتضاء إلى خاصية أخلاقية و سلوكية و فكرية، أعانت فيما بعد على الاستجابة لفكرة تلك الكونفدرالية.
قد يستهين البعض بالطبيعة الجغرافية التي شُّكل من خلالها العامل البشري ،في حين أنها قد تتحول إلى عائق حضاري أو مُحفّز نهضوي؛ وخاصة الطبيعة القبلية، فهي طبيعة في مجملها مقاومة للتغير و التغيير،كما أن النرجسية القبلية تمنع غالبا أصحابها من الاندماج مع الآخر المختلف، أو يُمكن القول هي نرجسيّة تُصعّب الاندماج مع الآخر المختلف، والمنع أو الصعوبة عادة ما يكونا بسبب التوجس الذي اكتسبه العنصر القبلي حاصل حياته في الصحراء، لذا فإن مسألة نجاح اندماجه و توسيع توطينه مع غيره تعتمد في المقام الأول على الثقة في ذلك الغير، وكلما اقترب التشابه بينه و بين ذلك الغير نجحت عملية الاندماج و التوطين و توسيع دائرة تآلفاته و إسنادات وحدويتها.
إن معظم شعوب دول الخليج يعود أساسها إلى الطبيعة القبلية،وهذا الاساس هو الذي أسس جذر الثقة بين تلك الشعوب و التراضي للاندماج و توسيع التآلفات، إذ أن ذلك الجذر كان بالنسبة للجميع هو ضامن ثبات الهوية و استمرار تكرار تأصيلها.
والجير بالذكر أن الدين لم يكن في بدايات ذلك الاندماج ممثلا لأي إشكالية على مستوى التمييزالطائفي، فكانت الشيعة و السنّة في السعودية أو الكويت أو البحرين يعيشون في ضمن هوية مشتركة وفق متشابهات المشترك الجغرافي، ولم يُصبح التمييز الطائفي إشكالية جغرافية تضر بهوية شعوب الخليج العربي إلا بعد الثورة الإيرانية من جانب، و تصاعد التطرف الديني السني من جانب آخر.
و المشترك الجغرافي بدوره أسس المشتركات الأخرى، الثقافي، الاجتماعي و الاقتصادي، و السياسي، و تلك المشتركات ستظل هي أساس قوة الوحدة الخليجية.
لقد نجح المشترك الجغرافي في تأسيس مبدأ «المصير المشترك» هذا المبدأ الذي بٌنيت وفقه وثيقة ثقافة شعوب الخليج العربي، التي تحولت إلى إيمان راسخ تتوارثه الأجيال الخليجية وقد نجح هذا المبدأ في حماية وحدة و سلامة وأمن الخليج العربي منذ الحرب العراقية الإيرانية مرورا بعاصفة الصحراء و صولا إلى أزمة قطر.
ولذلك فالأمم تراهن على ثقافة شعوبها في أزماتها.
تتميز ثقافة شعوب الخليج العربي بقوة أصالتها، تلك القوة التي قد يعتبرها البعض مانعة لقيم النهضة و أشكالها، كما أنها أصالة وجدانياتها أكثر من عقلانياتها وهذه خاصية قد تعرضها للابتزاز الوجداني و استغلال حماسها الانفعالي لبناء إطار تطرفي، وهذان جانبان لايمكن إنكارهما غالبا بالنسبة للثقافات الجذرية، لكن هذا لا يعني أنها تخلو من فوائد أهمها أن تضاءل الفجوة الفكرية لهكذا نوع من الثقافات وهو تضاءل أنجح الكونفدرالية الثقافية الخليجية،كما أن أصالة تلك الثقافة تتحول إلى ضامن حماية لمجتمعاتها وقت الحروب و الأزمات باعتبارها مصدر الانتماء و الولاء. ولذلك فمن يعتقد أن أزمة الخلاف مع قطر قد تعصف بثقافة الوحدة الخليجية و تُحدث شقا في صفها، فهو لا يدرك خصائص قوة وحدة تلك الثقافة و متانة عروتها الوثقى الذي لا يستطيع أي نظام سياسي مهم اشتدّ تعنته و سفهه أن يفكك قوتها، فالشعوب دوما هي الأبقى من الأنظمة السياسية.
فشعوب «الخليج العربي» تتميز «بالقيمة القبلية» وهذه الميّزة هي التي شكلت بنية الوحدة الاجتماعية للخليجيين، بحيث توزعت القبائل ما بين دول الخليج فكل، قبيلة لها فرع أو أكثر مستقر في هذه الدول، وهذا تأصيل بلا شك صانع مهم للانتماء و الاندماج، كما أن الجنسيات لم تقف يوما مانعا لاستمرار ذلك الانتماء و الاندماج، هذا الإحساس بتواصل صلة القربى بين الخليجيين هو الذي يحمي قوة الوحدة الاجتماعية و الثقافية بينهم.
ومهما توسع الخلاف السياسي تظل تلك الوحدة بعيدة عن ذلك الخلاف و توتراته.
إن سعى البعض إلى إثارة فتنة الفرقة و المشاحنات و تحويل ذلك النسيج إلى إشكالية «الأخوة الأعداء»،سعي فاشل؛لأن المجتمعات الخليجية هي مجتمعات قبلية و ليست مجتمعات مدنية،وبالتالي فإن منظومة النفعيات هاهنا مؤسسة على القيمة الوجدانية القبلية «صلة القربى» و «العادات المشتركة»، اللتين يصبحان هما القانون المحرك للمجتمعات ذات الجذر القبلي، وليست كمنظومة النفعيات التي تُبنى من خلالها المجتمعات المدنية القائمة على قيمة القانون و الحقوق الفردية.
و بذلك فإن الوحدة الخليجية الاجتماعية و الثقافية لا تعتمد على النفعية في مستوياتها المتعددة كما نجد في الكثير من الكونفدراليات،إنما تعتمد على صلات القربى ،وهو اعتماد يطبع بلاشك تلك الوحدة بالشرف و السمو.
اعتقد البعض أن الخلاف مع النظام القطري قد يشق صف شعبية ثقافة الوحدة الخليجية و يشكك في استمرار جدوى نفعيتها وإن التطور الزمني يحتم إيجاد معادلات كونفدرالية جديدة و توازنات قوى إضافية ترسم خارطة للخليج العربي الجديد، كما فعلت ذلك قطر من خلال استدعاء المُعين الإيراني و التركي.
وقبل مناقشة ذلك الاعتقاد، أريد القول بأن استدعاء المساعد الإيراني و التركي كبديل للقوة الخليجية هو رهان خاسر، لأن نجاح أي استدعاء أو إضافة قوة مساندة لتشكيل كونفدرالية حقيقية، يعتمد على عاملين؛ توازن القوى،التوافق الثقافي.
فتوازن القوى السياسية بين الأطراف، هو أمر ضروري و غياب ذلك التوازن يٌدخل الدولة الجالبة للاستدعاء الحماية و الانتداب ، وهما بلاشك يعنيان فقدان «للسيادة» بكل مضامينها ،و خضوعها لسياسات الدول الحامية و بذلك ستجد قطر نفسها تحت ضغط استغلال تلك الدول لمصلحتها في المنطقة، و هو ما يعني استعمارها معنويا.
إن غياب التشابه الثقافي-اللغة،العادات،التقاليد- بين عنصري الاندماج، مع إجبارية الاندماج قد يؤدي بالضغط إلى ثورة ثقافية؛ للدفاع عن أصالة الثقافة وحمايتها من التفكيك، فالثقافات هي التي تٌشكل الأنظمة السياسية و تحميها،وليست الأنظمة السياسية هي التي تُشكل الثقافات.
وهناك نقطة متعلقة بهذا الجانب وهي «وهمية مسألة المنع و الحجز» فالنظام القطري باستدعائه العنصر التركي و الإيراني و سعيه لإحلالهما كبديل لقوى دول محاربة الإرهاب، وهو سعي يهدف إلى صنع إطار لحجز الشعب القطري عن بقية شعوب الدول الخليجية و فصله عنها، كما حدث مع الحجاج القطريين، و إستراتيجية الحجز و الفصل هي إستراتيجية تهدف إلى تغير معتقدات الشعب القطري و مواقفه من وحدة الثقافة الخليجية، والتشكيك في هذه الكونفدرالية ،وذلكم سعي فاشل سواء على المدى القريب أو البعيد ؛لأن الثقافات هي التي تنتصر نهاية المطاف،مهما اشتد جبروت العسكر.
أما فيما يتعلّق بمسألة توسيع الكونفدرالية الخليجية ،فأظن أنه أمر مهم على دول الخليج أن تنظر إليه بنظرة جادة تنطلق من الاقتضاء الراهن و التهديدات الإيرانية و ملحقاتها كقطر.
ولكن يجب أن يتصف التوسع الكونفدرالي الخليجي بعدة صفات منها ؛التقارب الثقافي مع الشعب الخليجي حتى لا يتم رفض هذا التوسع و لا تتضرر وحدة الهوية في مستوييها الكمي و النوعي، فأي توسع لا يتصف بالخاصيتين السابقتين قد يقود إلى ثورة ثقافية.
إضافة وهي إضافة رئيسة و ليست مساندة،هي وجود الاشتراك في المصالح و المخاطر، وهذا الاشتراك هو الضامن لنجاح سياسة أي إضافات تقوية لبنية الوحدة الاندماجية.
وبإيجاز فإن أي سعي خليجي لتوسيع الكونفدرالية الخليجية يجب أن يهدف إلى التقوية وليس إلى إعادة تأسيس كونفدرالية جديدة.