يُعَدُّ الجانبُ البلاغيُّ أمرًا ضروريًا, وبالغَ الأهميّة في التواصل بين الخطيبِ والمستمع، وإذا كانت البلاغةُ -في أوضح مفاهيمها- إيجازًا، فإن الخطبةَ تَتحدّدُ بشكلٍ جليٍّ من خلالِ هذا المعيار الكَمّي, وهو ما دَعَتْ إليه البلاغة النبوية, كما في قصة عمّارٍ بن ياسر رضي الله عنه -في الحديث المرفوع الذي رواه مسلم في صحيحه رقم (869)- حين أَوجَزَ وأَبلَغ, فلما نَزَلَ, قيل له: يا أبا اليقظان, لقد أبلَغتَ, وأوجَزتَ, فلو كنتَ تَنَفَّسْتَ! فقال: إني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: «إنَّ طولَ صلاةِ الرجلِ, وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ, مَئِنَّةٌ من فِقْهِهِ, فأطيلوا الصلاةَ, واقصروا الخُطْبَةَ, وإنَّ مِن البَيَانِ سِحْرَاً».
ويُلحظُ هنا أن المعيار الكمي (الطول والقصر) يؤدي إلى نتيجة مهمة, وهي مَظنة الفقه, والعلم, والدراية, وهذه نتيجة تداولية يُعرف بها مقام الخطيب, وجدارته, فالخطيب المؤهل هو القادر على الأداء الجيد, وفق المعيار الكمي المعتبر, وهذا بالطبع من البيان, كما يدلُّ عليه لفظ الحديث (إن من البيان سحرا) ومن هنا اقترن المعيار الكمي, بالغاية البلاغية, والأدبية.
وعلى ضوء ذلك لا ينبغي أن تكونَ الخطبةُ صوتاً عالياً، أو لفظاً مسجوعاً، أو شكلاً فنيّاً فحسب، والخطيبُ الذي يتعمّدُ ذلك الأمر ويتقصّده إنما ينأى بخطبته إلى حيث الاهتمام بالشكل والمظهر، والابتعاد عن الأصل والجوهر, فيكون حرصه على تسجيع الخطبة، أو تزويقها, حائلا دون الاتعاظ بها, ولم يكن أفصح العرب قاطبة -نبينا محمد صلى الله عليه وسلم- في خُطَبه سجّاعا، ولا متصنّعا، ولكنه كان -صلى الله عليه وسلم- حريصا على مراعاة أحوال المخاطب من كل ناحية، وكان يحرص على مبدأ (السلالم الحجاجية) في التواصل مع الآخرين، ولعل حديث معاذ لما بعثه -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن مثال واضح على ذلك, ومن هنا يكون المبدأ التداولي في الخطبة من أهم سماتها الأدبية.
وهناك محددات تداولية ثلاثة لا بد من أن يعيرها الخطيب انتباهه؛ لتغدو خطبته محققة لغايات المتلقي, فمن ذلك مثلا:
1- المحدد الزمني: وذلك من خلال مراعاة أحوال الوقت الذي تُلقى فيه الخطبة، والاهتمام بمناسبة الأحداث التي وَقَعت، أو تَقَع، أو سَتَقع، فلا يُقْبَلُ أن يُذكّر الخطيبُ بفضلِ ليلة القدر في أيام التشريق، أو العكس، كما لا يصح أن يتحدثَ الخطيبُ عن الاستعداد للدراسة, أو الاختبارات, في بداية الإجازة, أو في منتصفها، وعليه في ذلك مراعاة حاجة الناس, ورغباتهم, حسب ما تمليه ظروف الوقت.
2- المحدد الاجتماعي: وذلك من خلال مراعاة طبقات المصلين, وأجناسهم, وأعراقهم، فحين يخطبُ خطيبٌ في منطقة صناعية, أو تجارية، أو زراعية، فعليه أن يراعي طبيعة المصلين واختلاف أعراقهم, ولغاتهم, وطبقاتهم، فيجعلُ خطبتَه بلغة واضحة مفهومة، أو قريبة إلى فهم المتلقي، بعيدةً عن التقعّر، والتكلّف، وتباين الآراء، واختلاف المذاهب.
وأَذكرُ لما كنتُ في بريطانيا, كان الخطيبُ يزاوج في خطبة الجمعة بين اللغتين العربية، والإنجليزية؛ ليبدو الأمر أكثر وضوحا لغير الناطقين بالعربية من المسلمين الجدد, وغيرهم من المسلمين غير العرب.
ومن الطرائف أذكر أن شيخي وأستاذي عبدالله البنيان -أطال الله في عمره، وأمده بالصحة والعافية- كان يحدِّثنا عن خطيبٍ يخطبُ في قرية بعيدة، كان يقرأ من كتاب قديم مهترئ، وكان يدعو في آخر خطبته للسلطان عبدالحميد الثاني، وكان المصلّون يؤمّنون معه، وهنا تبدو الخطبة مُضحكةً؛ لأن الطبقةَ الحاضرةَ في المسجدِ كانت تحتاج قولا مناسبا، ونصحا مفهوما, ومعلوما، عند حدود علمها المتواضعة، ومستوياتها العقلية المحدودة، وفي المقابل لا يعني ذلك أن تكون الخطبةُ أجنبيةً، أو عاميةً، ولكن من المهم أن تلامس طبيعة المصلين الاجتماعية، فتراعي طبقاتهم العلمية, وحدود معارفهم.
3- المحدد الموضوعي: وهو أن يختار الخطيب موضوعا واضحا, ومتفقا مع طبيعة المقام الذي تفرضه الخطبة، فيبتعد عن الأمور الشائكة في العقيدة، أو الملتبسة، أو حمالة الأوجه، أو متعددة الآراء، فلا يخوض فيما يستدعي الشك، أو التساؤلات المحيّرة، والمقلقة, ويرتبط المحدد الموضوعي بالزمني في مراعاة ظروف الوقت الذي تُلقى فيه الخطبة، كأن يكون عن فضل رمضان في شهر رمضان، أو عن مناسك الحج والأضحية في عشر ذي الحجة، وعلى ذلك فإن المحددَ الموضوعي أمرٌ في غاية الأهمية, ينبغي على الخطيب مراعاته ضمن اهتمامه بالمحدد الزمني, وضمن اهتمامه بالمتلقي -أيضا- الذي يفترضُ في تقبّله موضوعاتٍ تلامس حاجته.
4- المحدد الفني: وذلك بأن تكونَ لُغةُ الخطبةِ واضحةً غير غامضة، بعيدةً عن الأسجاع، والتصنّع اللفظي، وأن تكون سالمةً من الأخطاء النحوية، والهفوات اللغوية, وركاكة الأسلوب, وأن تكونَ متوسطة في تناصّها, وبخاصة عند استلهام الشعر، والحكم، والأمثال، حتى لا تضيع شخصية الخطيب, ولئلا تكون الخطبة استعراضا, عندما تُملئ بالشواهد الأخرى، فإن تجنّب تلك المزالق أدعى لقبول الخطبة، والتأثر بها.
إن على الخطباء اليوم بذل المزيد من الاهتمام بخطبهم, وبخاصة من الجانب التداولي, فإن مراعاةَ الخطبةِ وفق هذا التصور البلاغي مئنةٌ من تفوق الخطيب, وبراعته, وإلمامه بأصول الخطبة, وضوابطها, ولا شكّ أن الانتباه لهذا الأمر سينعكس أثره على الأركان التواصلية الثلاثة (الخطيب- الخطبة- السامع) وهو ما سيجعل الخطبة أكثر فائدة, ونفعا, وإشراقا, ومن ثم قبولا عند المتلقي, وتحقيقا لغاياته, ومقاصده التي يرمي إليها.
** **
- د. فهد إبراهيم البكر