(رغبة) الاسم الذي اختاره الشاعر الشاب حاتم الجديبا عنوانا لديوانه المطبوع سنة 1438/2017 عن نادي تبوك الأدبي ومؤسسة الانتشار العربي. يقع هذا الديوان في سبع عشرة ومائة صفحة من القطع المتوسط، ويشتمل على اثنتين وعشرين قصيدة، أربع منها من شعر التفعيلة، والباقي من الشعر العمودي. ليس اللفظ المفرد للعنوان هو ما يسترعي الانتباه، لأن اختزال العنوان في كلمة واحدة أمر دأب عليه شاعرنا في عناوين قصائده، فأكثر من نصفها أتى بلفظة مفردة مثل (غفران)، (توحش)، (ملل)، (مدى)..
يبدأ شاعرنا والديه بإهداء ديوانه كما فعل في ديوانه السابق (حظي اشتكى حظي) الصادر عام 2013، غير أنه هناك أشرك معهما أحباءه، وهنا أشرك عائلته.. لحاتم (رغبة) شديدة في التمسك بالشعر التناظري وبالبحور التقليدية التي اعتاد النظمَ على منوالها فحولُ شعراء العرب؛ كالطويل والبسيط والكامل والسريع، ويضيف قصيدة من بحر قلَ الخوض فيه حديثا وهو بحر (المديد). وليثبت انتماءه لمدرسة الشعر العمودي حرص على تصريع مطالع قصائده جميعا، ولتأكيد القدرة والتمكن من الشعر العربي ارتاد القوافي الصعبة والنادرة مثل (الشين) و(الزاء) في قصيدتين من تسعة عشر وسبعة عشر بيتا على التوالي. وكأني بحاتم بعد أن أثبت شدة انتمائه لبحور الخليل ألحت عليه (رغبة) أخرى بأن يجدد في (العروض) و(الضرب) التي وضع لهما عالمو العروض والقوافي قواعد ألزموا الشعراء السير على نمطها، فخرج في بعض قصائده عليها..
ففي قصيدة بعنوان (صفحة) يقول:
صفحتي تعتعت مثل أعشى غررته الدجى حين أفشى
فالقصيدة من (مجزوء المتدارك) جاءت عروضها (مرفلة)، أي لحقها سبب خفيف فأصبحت (فاعلاتن) بدلا من (فاعلن) ولم يُعهد عن المتدارك ولا مجزوئه أن تأتي العروض إلا صحيحة (فاعلن). وجاء الضرب في القصيدة ذاتها كالعروض، وقد جرت عادة الشعراء أن (يخبنوا المرفل) أي يحذفوا الثاني الساكن من التفعيلة – لتكون (فعلاتن) بدلا من (فاعلاتن).
هذا الخروج عن قواعد العروض لم يؤثر في موسيقى البيت. لكنَ تغييرا أجراه شاعرنا على قصيدة أخرى كاد يخرج بها من بحر الطويل. القصيدة بعنوان (ملل) ولعل الشاعر أراد بإخراجها عن بحور الخليل إبعادها عن الملل. يقول الشاعر:
وحيدٌ كأنَّ البالَ مختنقُ بهجسِ الغُوى والجد مخترقُ
فالتفعيلات الثلاث الأول من شطر البيت تحاكي بحر الطويل (فعولن، مفاعيلن، فعول) غير أن التفعيلة الرابعة التي من المفترض أن تكون (مفاعلن) أو (فعولن) جاءت على وزن (مفا) فحذف الوتد المجموع من (مفاعلن) أو السبب الخفيف من (فعولن). وأعتقد أن الشاعر لم يوفق في هذا التجديد فاختفت الموسيقى من القصيدة تماما، لكني أحمد له فضل التجريب..
ولم تقف رغبة حاتم في الخروج على النمط الجاهلي عند هذا الحد، فقد كتب قصائده العمودية كما تُكتب قصائد التفعيلة، وكما تكتب قصيدة النثر!..
ما الذي يجعل الشاعر العمودي يلجأ إلى كتابة قصائد ديوانه بطريقة شعر التفعيلة؟ هل ليجاري الحداثة؟ لا أظن. فهو يكتب قصيدة التفعيلة، وفي الديوان كما أشرت في مطلع مقالي هذا أربع قصائد من شعر التفعيلة.. أظنه رأى أن كتابة الشعر التناظري بالطريقة المعتادة تُجَزِّئ الجملة بين شطري البيت الواحد، ولذا نجد الشاعر عند إلقائه لا يتوقف عند نهاية الشطر إن لم يتم المعنى، فينتقل للشطر الثاني وأحيانا إلى البيت التالي. وهذا نموذج لما أريد قوله:
أفقتُ..
واللاوعي يعدو صفاءَ
ففرت الأزمات كالخائباتِ
نفسي..
أضأتُ النفسَ في سدرِ فألٍ مبللٍ..
بالخير والأعطياتِ
ويبدو أن الشاعر يقصد هذه المراوحة بين الأصيل والجديد، فهو يقول:
تسمنني العاداتُ حينا فترتوي
تراثيتي حتى تعيلَ تخلُّفي
وطورا حداثي المزاج بلهجة
ضبابية تنسل تحت معرفي
أما إذا انتقلنا من الشكل إلى المضمون فإن الشاعر حداثي الموضوعات والمعاني، يبحث عن الصورة المبتكرة، ويُكسب اللفظة معنى مجازيا حتى إن لم تحتمله، كقوله:
للخوف في مضماره جلجله يدمي صهيل العقل بالبلبله
يجس أطوال السكوت الذي
ينوء بالتكشـيرة المســدله
وقد يخرج به البحث عن المجاز إلى الإبهام حين تختفي القرينة التي تجمع بين المعنى المجازي والمعنى المراد:
شــكٌّ خرافيٌّ بدا ها هنا
يجــول في ضوضائه المثقله
تصفر أذواق النوايا به
كالجدبِ يحسو ضحكةَ السنبله
ومن قصائده التي احتوت صورا جميلة قصيدة بعنوان (تجليات مبتدئ) التي أشار فيها للإمام الجنيد، وفيها يقول:
أذكاره بالملهمات تهندمت
مثل الصبايا في انتظار الخاطبه
فكأنها لغة تعافت شمســها
تصطاد من شــهد البديع عجائبَه
ومن الصور المستقاة من واقعنا المعاصر قوله:
عليه منبهات الصحو أغضت
كصندوق الشكاوى لا يزار
ومن الصور الجميلة كذلك قوله:
شاهدت حرص الباب يخفي خلفه
وجها سماوي الشذى هيمانا
وله كذلك هذا الوصف الجميل لتعرية الرياح للجبل:
جبلٌ تَحلِقُ الريحُ من ذقنه
وتعض الشوارب بالكبرياء
ومع كل هذا الإبداع في الصور فقد وجدتني لا أستسيغ بعضها – ولعلني أكون مخطئا - مثل قوله:
وكلما فاحت بدربي حياة
بالت عليها صخرة المحبطات
فـ (فاحت) لا تعني (اشتعلت) حتى يكون علاجها إطفاؤها بسائل كالبول.
ومن ذلك قوله:
كنستُ قلبي باليقين المُندَّى
كي تفرشَ الأنوار غدران ذاتي
فالتعبير بالكنس - فضلا عن ابتذال الكلمة - ليس المرحلة التي تسبق الفرش. وأحسبه لو قال: (هيأت قلبي) لكان أولى.
ومن المحسنات البديعية استعمال شاعرنا التورية في مطلع إحدى قصائده التي لم نكن لنتبينها لولا أنه أشار إلى مكان إنشاء القصيدة وهو (الفردوس) - المنطقة التابعة لمحافظة الكويت - ففضح ما أراد من (الفردوس)!. يقول:
سكبتُ في (الفردوس) أنفاسي
قلادة من صرح إحساسي
وقد سبقت بعضَ قصائد الديوان إشاراتٌ لأعلام من تاريخنا العربي والإسلامي، منهم علماء وشعراء؛ كالإمامين الجنيد وابن حزم، والشاعرين الجواهري وجبران، لكن دون تضمينهم في أبيات القصائد ما عدا (السُّليْك) الذي أشار إليه بقوله:
تصعلك في الإخفاق تحسبه
(سُليكا) بِجَلد الرمل يرتزق
وقد تناول الديوان موضوعات متعددة منها التأمل الفكري والفلسفي، ومنها الشعر العائلي – إن صح التعبير – فله قصيدة ترحيبية بابنته الجديدة وكيفية اختيار اسمها (مدى). وكذلك لم ينس معاناة الأمة بقصيدة عن اللاجئين السوريين بعنوان (تشرد). كما لم يخل الديوان من الهجاء، فقد حوى قصيدة هجائية لم يذكر فيها اسم المهجو، لكن يتضح من الأوصاف التي نعته بها أنها ليست لشخص أساء للشاعر؛ بل لرمز طغى وبغى وسوف يلقى الخذلان..
أما الغزل – وهو الذي احتل مساحة لا بأس بها من الديوان – فإن شاعرنا يتعامل معه بحذر، فيستعد له بالأسلوب القصصي. تبدأ قصيدة (زيارة) بدعوتها ثم الانطلاق نحوها محملا بالهدية الفاخرة، ثم بحضه على احتضانها، وحينذاك يختم قصيدته، أو قصته بقوله:
وهنا انتهى الفسح المباح لصبوتي
عفوا سأخرس شمعنا الفتانا
كما انتهت المساحة المخصصة لمقالي!
** **
- سعد عبدالله الغريبي