كثيرةٌ هي الأمنيات التي تأخذ مكانها مِن قلبك وعقلك.
وحينما تسوق إليك الأقدار شيئاً رسَخَ في اعتقادك أنه ليس لك لا تملك إلا أن تبكي.
لم يدر بخلدي ولو للحظة أنني سأحتفي برسالة باحث؛ ليس لجفاف المؤلفين فقط، بل لأنني فقدت الأمل في الوصول إلى الاستقلالية والفردية في مسألة القراءة؛ لأنني أصبو إلى قراءة ما أحب، لا ما يتاح لي إجباراً؛ لأنني أصبت بالخيبة حتى بعد وصول الكتاب؛ مسائل تقنية تعجز عن إدراكها، وأحياناً تعجز عن التعبير عنها، هي السبب في توقف القراءة. لأنني شخص لا يستطيع أن يسمع، ولا أن يتلذذ بما هو مُعْوَّجٌ لغوياً؛ لأنني شخص يبحث عما هو غير عادي مِن المؤلفات تلك التي تحمل في ثناياها ما لا يُفهم مِن النظرة الأولى؛ لأنني شخص يتأرجح عقله وجوارحه بين المنهجية، وبين الاستمتاع.
(وظيفة النقد الأدبي الحديث) رسالة ماجستير للباحثة (نائفة محمد عسيري) في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرسالة الثانية التي أضيفت إلى مكتبتي الرقمية، والتي أحتفي بها رغم أنها لا زالت وليدة. لن أتوقف عند فصولها؛ لأنني لم أتخصص في مجال الأدب ولا النقد فكيف بنقد النقد!
لكنني أستفرد بالحديث عن المقدمة.
أجمل القراءة تلك التي تُخرجك عن سياق المحتوى، وتختلط في أذنك أصوات الأسطر. وهذا ما شعرت به وأنا أتحسس صداها كمن يتحسس قلبه.
«... وفي خضم هذه النقلات تُركز المناهج الحديثة على تنوع الآليات، وابتكار الجديد من النظريات والمصطلحات؛ مما يجعل تحديد الغايات البعيدة التي ينتهي إليها العمل النقدي من العمق بما كان»، وكأنها في هذا المقطع تربط بين: (الحديث)، و(الغاية)؛ فتقول لك ببساطة كلما اقتربت من الحضارة ابتعدت الغاية عن ناظرك، علاقة طردية، كلما اقترب الناس من الزبد كانت المشقة أكبر في قطعك المفازات، وربما في قفزك إلى زمان غير زمانك.
تفاصيل كثيرة جعلتني أتشبث بكلمة الغاية التي تكررت في مقدمتها، والتي جعلتني أخجل من سذاجة تفكيرنا: كيف لي ألا أفهم من العنوان أن وظيفة النقد هي غايته؟ ما هذه الغشاوة التي غطت على استيعابنا؟ فأصبحنا نحتاج إلى العزلة للتصفية أولاً، ومن ثم الغوص في الخارج.
عامل آخر يعلل احتياجك إلى تكرار النظر في (الغاية) بين وقت وآخر: اقتراب المراحل العمرية من بعضها: «تسارع ظهور المناهج النقدية، وتباين التلقي العربيِّ لها، فبعد سنواتٍ من التجربة العربية مع المناهج بدأت تظهر مؤلفات في سلبياتها في مختلف الدول، بدءًا من مواطن نشأتها؛ وهذا يستدعي التوقف ملياً عند الغايات ومدى وضوحها».
هل تتخيلْ أنك على علاقة بغايات الأشياء؟ هل تتخيلْ أن الأبعاد الفكرية تؤثر عليك اقتراباً وابتعاداً؟ هل تتصور أنك مهما حاولت أن تتمثل مع المعرفة سلطة الوالدية مع الطفل إلا أنك تظل طفلاً؟
«ما علاقة المتلقي بالنقد؟ وهل انقطعت الصلة بينهما؟ أم زادتها وظيفة المنهج عمقاً وتنويراً».
ولأن قمة النضج الفكري في ألا يدهشك شيء كان الوصول إلى هذا المستوى من ثمرات البحث عن الغايات، لا الغاية ذاتها، تخيلْ كيف أن مجرد السير هو في حد ذاته مدرسة لا تضاهى بثمن:
«البحث عن العلل والغايات دقيق المسلك؛ لأنها ليست على ظاهرها المصرح به دائماً، فقد تأتي المعلنة جزءًا من وظائف أخرى تعمل تحت السطح، فيصعب تحديد الوظيفة الأهم والوظيفة الثانوية، على أن هذا التملِّي للوظائف يعلم الأناة في الموقف من المناهج دون انبهارٍ بالمنهج وتحميله من الوظائف ما لا يطيق، ودون رفضٍ كليٍ ونفيٍ لفوائده».
** **
- أمل الطوهري