تعددت أوجه الفلاسفة بتعدد وجهاتهم، وكثرت آراؤهم في أوروبا في القرنين الماضيين حتى أصبحت مهنة رائجة لكثير من الكتّاب والأدباء. وإعمال العقل هو خلاصة التعلم والتفكير المنطقي، ولكن تبقى علامة النجاح لعدد محدود - وإن كان الجميع قد أسهم في التقدم - فقط يتجاوزها قلة من الموهوبين منهم؛ لذلك إذا تتبعت أسباب النهضة الأوروبية لا شك أنك تجد في طليعة المشرّعين لها أحد النابغين الذي لا يشق له غبار، ألا وهو (جان جاك روسو)؛ إذ يعتبر كأحدى جمرات الحضارة الأوروبية في العصر الحديث! مبدع في أسلوبه الأخّاذ، وأشد من ذلك تميزه في الفكرة وتطويعها بقلمه؛ ليجعلها مثالاً يحتذى به، وتكون صورة لواقع حقيقي ومُتخيل! فهو أحد أعمدة التنوير في القرنَين الثامن والتاسع عشر في الفلسفة والأدب والدين أيضاً، بل تحسب نهضة أوروبا على أفكاره التنويرية وفلسفته الحكيمة، ولكن قد يتفوق أسلوب فولتير ندّه ومعاصره على أسلوبه مع حسد فولتير له. فسهولة فولتير وسلاسته تكمن في تحرره من قيود الالتزام بالأنماط الرسمية، وعدم الارتباط بما يمليه الآخرون من سياسة فكرية تحيد بهم جانباً عن التخلف الاجتماعي والديني والاقتصادي الذي ترزح أوروبا تحته آنذاك من سيطرة الكنيسة والقساوسة والنظام السياسي المعقد في بعض الدول، ومع ذلك لم يكن بمنأى عن الإبعاد عن بلده الأم على تحفظه الشديد! حين تكون المحاكاة عفوية فهي موهبة وذكاء من صاحبها، فإميل أحلام يقظة يمنّي روسو النفس التوّاقة التي تريد أن ترى مجتمعاً يحاكي بها المدينة الفاضلة التي سبقه فيها أفلاطون، ولكن هذه حياة فرد يحاط بتربية مثالية، يولد بفطرة سليمة منذ ولادته حتى شبابه، ولم يكن من السهولة بمكان نشر القصة؛ ففيها من المخاطرة الشيء الكثير على روسو والناشر الهولندي مارك ميشيل من غضب الكنيسة والقساوسة؛ لأنهم يتصورون أن ذلك إساءة كبيرة لهم وللدين المسيحي والكنيسة أيضاً، فهنا لا بد أن يحل العقاب تطهيراً للكاتب والناشر، ولكن لم يحدث أي من هذا! ولنا لحظات لا نؤيد روسو فيها مع إميل، وربما هو يريد أنموذجاً فقط لطفل يجب أن يبعد عن والديه منذ البداية حتى لا يتسخ برذائل الحضارة الزائفة ومشتقاتها كما يريد، فيكون بعيداً عنهما وبكفالته هو بحيث يكون هو المربي له بعد أن يرضع من ثدي والدته، وليس من المرضعة كعادة الأوروبيين، وأن يطلق العنان له في الطبيعة بعفوية معهودة بحيث يتعلم منها ما يشاء دون إارة من أحد أو توجيه. ولعلّ قصة حي بن يقظان لابن الطفيل كانت مرآة له في ذلك من حيث الفكرة مع اختلاف السيناريو. وسواء اطّلع روسو على قصة ابن الطفيل أم لا؟! إلا أن في قراءة حياة إميل الطبيعية شيئاً من التفكر والفطرة السليمة. ولو قرأ روسو عن الإسلام لاهتدى كثيراً إلى سلوكيات مهذبة للعنصر البشري، فضلاً عن المراحل التي يتفق مع الإسلام فيها! ولكن تبقى نقاط الاختلاف شاهدة كقوله كأن لا يجوز أن يناقش الفتى أو يتعلم أموره الدينية في هذه السن حتى الثامنة عشرة من عمره. وليس هذا بمنطقي؛ فالفطرة منذ الصغر تهديه إلى خالقه بكميات الأسئلة التي تختمر في قلبه وعقله، فكان لا بد من توجيه يساعد إلى الاستقرار الروحي والاطمئنان النفسي حتى لا تضطرب عنده سلوكيات خاطئة، ترميه إلى سواء الجحيم.
وعندما بلغ أشده اختار له سلوكيات الغرب، ولكن بطريقة مهذبة مع تشديد الالتزام بالبعد عن النساء، وعدم السقوط في حبائل الهوى. والحل يكمن في الزواج ولكن على الطريقة الغربية المنبعثة من التفكك الأسري والاجتماعي بحيث يكون الاختيار بالمعروض وليس بالمعرفة والخبرة الأسرية؛ لذلك يفشل في المدينة حين لا يجد مبتغاه، وينجح في الأرياف!
لا شك أن أحلام روسو كانت جميلة في خلق كائن بشري سوي بتربية مثالية، يستطيع من خلالها أن ينبذ العنف، ولا يحمل ضغائن شريرة على الخلق بحيث يجعل العالم في أسفل سافلين كما نراها اليوم على الهواء مباشرة!
** **
- زياد السبيت