اختتمت المقال السابق بسؤال: هل تستطيع المُلْكية الخاصّة إزاحة الإنسانية؟ وخلاصة ذلك الموضوع تكمن في أن إنسانية البشر واختلافهم عن الحيوانات قائمة على المجتمع المتآخي المبني على المُلْكية العامة وإدارة المرأة للمجتمع! أي العدالة الاجتماعية تحت اشراف المرأة القائدة! والمُلْكية الخاصة ظهرت في حقبة تاريخية متأخرة إبّان الحضارة ولا بد لها أن تختفي في حقبة لاحقة!
ولمحاولة الإجابة على السؤال لا بد من الإشارة الى معنى المُلْكية الخاصّة بدايةً، حيث يوجد خلط مقصود في كثير من الأحيان بينها وبين الملكية الشخصية: كل ما يملكه أي شخص من عقار مثلا أو ملبس أو وسيلة نقل من أجل الاستخدام الشخصي يسمى في الاقتصاد ملكية شخصية، أما المعمل أو الحقول الزراعية أو المصنع أو غير ذلك، والذي يعمل به العديد من الأشخاص ولكن يمتلكه فرد أو مجموعة قليلة من الأفراد يسمى مُلْكية خاصة.
تنظيم المجتمع على أساس الملكية الخاصة يتطلب أولا أداة تُجْبِر من لايملك أن يبيع قوة عمله لمن يملك طوعاً أو إكراهاً، أي استغلال المالك لمن يعمل في ملكيته. ويتطلب ثانياً إقصاء المرأة وجعلها في المرتبة الثانية أو ربما العاشرة بعد الرجل! ..لماذا؟ وكيف يحدث ذلك؟
الأداة القمعية في المجتمع الاستغلالي القائم على الملكية الخاصة هي السلْطة. وهي تشمل السلطة التنفيذية (الادارية والعسكرية) والتشريعية والقضائية والفكرية (التعليمية والإعلامية) والفنية (التشكيل والأدب والسينما ووسائل التواصل الاجتماعي حالياً)، وكذلك السلطة المدنية، المتمثلة في مؤسسات المجتمع المدني. في المجتمع القائم على المُلْكية العامة للثروة لم يكن هناك وجود للسلطة. وبالرغم من أن السلطة انبثقت مواكبةً للملكية الخاصة، أي ظهرت في حقبة تاريخية معينة، إلا أنها لم تكن على الشكل الذي نشهده في عصرنا، فقد كانت على شكل أفراد معدودين يمثلون الحاكم إدارياً، ثم تطورت تدريجياً لتشمل الأشكال الأخرى. ولكن لماذا يتطلب هذا المكون الذي يسمى سلطة إقصاء المرأة؟
كانت المرأة مقدسة في المجتمع القائم على الملكية العامة فقط، لأنها هي الأم التي أنجبت المجتمع كله، وكانت المرأة الأكبر سناً تقود المجتمع وحيدة إذا كان عدد أفراد ذلك المجتمع قليلاً، ولكنها تستعين بنساء أخريات من جيلها في القيادة عندما يكون عدد أفراد المجتمع كبيراً (مجلس)، وعندما توزع المرأة المحصول من صيد وثمار، سواءً كان كافيا أو شحيحاً، إنما توزعه على أولادها، وبالتالي توزعه بعدالة! وبالرغم من أنها تميز الطفل عن الكبير والذكر عن الأنثى المربية، إلا أن الجميع كان يعتبر ذلك طبيعياً وخاليا من الظلم. وبما أنها كانت هي الموجهة والمربية والمعلمة والمفكرة، ففي نهاية المطاف هي المقدسة.
أما وقد ظهرت الملكية الخاصة فمن الضروري أن تنتقل تلك القدسية الى الرجل! والقدسية الأعلى لمن يملك من الرجال، أما من لا يملك يكون مقدساً بالنسبة لزوجته وبناته وأولاده فقط.
ذروة الملكية الخاصة كانت في المجتمع العبودي، حيث يمتلك السيد العبد وزوجته وأولاده ولا ملكية للعبد سوى جسده، كما انحدرت قدسية المرأة الى الصفر، وللسيد الحق بالزواج بالعدد الذي يشاء من النساء، بل من حقه أن يقتل المرأة إذا شاء ذلك. ولكن الملكية العامة عادت بعد العبودية لتزيح الخاصة تدريجياً، فبيت المال أو وزارة المالية ليست ملكاً لفرد، إنما هي ملك المجتمع بإشراف السلطة. كما أصبحت الخدمات كالصحة والتعليم في الكثير من البلدان ممولة من المال العام. وهذا التطور ينطبق على دور المرأة في المجتمع أيضاً، فبعد أن كانت محرومة من كل الحقوق تقريباً في العبودية، استطاعت الحصول على بعض حقوقها في التعليم والعمل وتبوأت مناصب راقية وغير ذلك فيما بعد العبودية، ولكنها لم تستطع استرداد ولو جزء من قدسيتها حتى الآن. وبالرغم من أن بعض النساء تبوأن مناصب قيادية في بعض الدول، إلا أنهن مارسن سلوكاً يتنافى مع قدسيتهن المضمرة، فقد حرّضن على الفوضى والحروب العبثية التي يكون الأطفال أول ضحاياها، وذلك لأن الرجال نجحوا جزئياً في مسخ المرأة وتحويلها الى سلعة وأداة لخدمة الأنظمة القائمة. وعندما تدرس شخصية مثل تلك النساء، تجدهن غالباً غير أمهات وتغمرهن الأنانية وحب الذات.
إذا كان التواصل بين أفراد المجتمع القائم على الملكية العامة وقدسية المرأة هو الذي طور اللغة والفن والعلوم، أي إنسانية البشر بشكل عام، فالملكية الخاصة واضطهاد المرأة أتلفت جزءاً كبيراً من تلك الإنسانية وكرست سلوكاً أقرب الى الحيوانية. المأساة الحقيقية التي نحياها حالياً هي أننا لا نفكر! وإذا فكرنا فمن خلال العرف الاجتماعي والقيم التي كرستها الملكية الخاصة في أذهاننا عبر آلاف السنين، ولكن يوجد في وجداننا بقايا انسانية ترفض الخصخصة.
** **
- د. عادل العلي