كالعادة في الأزمات يختزل الوطن في تيارين نافذين، كلاهما يدعي حبه والذود عنه وعن مصالحه، كلاهما يستخدمه وسيلة لإقصاء الآخر وشيطنته وتخوينه، كلاهما يدعي وصله، وأنه ممثله الشرعي والوحيد.
في عنفوان الأزمة الأخيرة هب الفريقان لنصرة الوطن كما يدعيان، وبدلاً من التوجه إلى الخطوط الأمامية استقطع الفريقان مساحة كبيرة في حراكنا الفكري والثقافي ليتنابزا بالأفكار والألقاب. اختزلا المعركة في كشف عوارهما وسوء تدبيرهما وعملهما. الأزمة تزداد اشتعالاً، والحزبان يتصيدان المواقف والأفكار والتعابير، ثم يعيدان صهرها وقولبتها في قوالب معدة للفتك بالآخر، وتعريته أمام المعتدلين المعتزلين كل شيء إلا الوطن وحبه.
الإسفاف تهمة يسوقها الراسخون في الجلد لأقرانهم، يرون في طرحهم مخالفة لقانون الحضور وأخلاقياته، بينما هم أول من سلب الناس وطنيتهم، أحدهم وفي بدايات الربيع العربي صرخ بأعلى صوته قائلاً:- أين هؤلاء في ذلك اليوم المشهود؟ وأخذ يعد وبإحصاء دقيق عدد الحضور والغياب عن المشهد الموعود والمسمى بحنين.
ماذا حصل؟
نجح المجبولون على حب الوطن فطرة وولاء، وهم السواد الأعظم، أما الآخرون من عشاق الظهور والنياحة فلم ينجح أحد!
اليوم أظهرت هذه الأزمة حزباً جديداً، هو إلى الكنبة أقرب وأخبر، وظيفته الوقوف في الوسط، ليس بين قضيتين، ولكن بين موقفين، في منطقة رمادية، تحسبه على اللحظة والمصلحة، وليس على المبدأ أيًّا كان نوعه وشرعيته. هؤلاء الرماديون إسلاميون عندما يضج المشهد بما يصطلح عليه حركيًّا بالعلمانيين والليبراليين، وهم تقدميون حداثيون عندما يستأثر الآخرون بالمشهد.
خبرتهم تخولهم الكسب دائماً؛ لأنهم وباختصار شديد بدون مواقف سوى موقفهم الوحيد مع أنفسهم وذواتهم المثقلة بحب الكسب والظهور.
الرماديون هم ضيوف الحدث أيًّا كان نوعه أو طريقته، اليوم عدو وغداً صديق في صورة ترسخ النفعية أسلوب حياة وخارطة طريق.
الرماديون ناعمون في حضورهم، مرنون في مواقفهم، مجبولون على التروي والهدوء والسكينة، شعارهم: دعهم يتنابزون، ورماديتك تجعلك وسطاً بين قاعين، إن صعد أحدهما كان طوق نجاتك وشعارك حتى حين.
الوطن ليس المستوطنين يميناً ويساراً، ليس الرماديين أصحاب الأمزجة المتغيرة والبضائع المزجاة، الوطن هو السواد الأعظم من المفطورين على حبه المجبولين على الوقوف معه؛ لأنه قضيتهم الأولى التي منها يبدؤون وإليها ينتهون.
** **
- علي المطوع